فصل: تفسير الآيات رقم (1- 3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 66‏]‏

‏{‏قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ‏(‏63‏)‏ وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏64‏)‏ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ‏(‏65‏)‏ وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

ولما كانت حقيقة المنكر ما خرج عن عادة أشكاله، ولم يكن على طريقة أمثاله، أضربوا عن قوله، وكان جوابهم أن ‏{‏قالوا بل‏}‏ أي لسنا منكرين لأنا ‏{‏جئناك‏}‏ لنفرج عنك ‏{‏بما‏}‏ أي بسبب إيقاع ما ‏{‏كانوا‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏فيه يمترون *‏}‏ بما جرت عادتنا أن نأتي بمثله من العذاب الذي كانوا يشكون فيه شكاً عظيماً، يحملون نفوسهم عليه ويكذبون به، والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه، من حيث إنه لا يرجع إلى ثقة فيما هو عليه ‏{‏وأتيناك بالحق‏}‏ الفاصل بينك وبينهم، الواقع بهم مطابقاً لإخبارنا؛ والإتيان‏:‏ الانتقال إلى جهة الشيء، والذهاب‏:‏ الانتقال عنه ‏{‏وإنا لصادقون *‏}‏ في الإخبار بما يطابق الواقع‏.‏

ولما أخبروه بوقوع العذاب بهم، أمروه بما يكون سبباً فيما أمروا به من إنجائه، فقالوا‏:‏ ‏{‏فأسر‏}‏ فأتو بالفاء لأن ما بعدها مسبب عما قبلها ‏{‏بأهلك بقطع‏}‏ أي طائفة ‏{‏من الليل واتبع‏}‏ أي كلف نفسك أن تتبع ‏{‏أدبارهم‏}‏ لتكون أقربهم إلينا وإلى محل العذاب، لأنك أثبتهم قلباً وأعرفهم بالله، والشر من ورائكم، وقد جرت عادة الكبراء أن يكونوا أدنى جماعتهم إلى الأمر المخوف سماحاً بأنفسهم وتثبيتاً لغيرهم، وعلماً منهم بأن مداناة ما فيه وجل لا يقرب من أجل، وضده لا يغني من قدر، ولا يباعد من ضرر، ولئلا يشتغل قلبك بمن خالفك، وليحتشموك فلا يلتفتوا، أو يتخلف أحد منهم- وغير ذلك من المصالح؛ والدبر‏:‏ جهة الخلف وهو ضد القبل ‏{‏ولا يلتفت‏}‏ أي أصلاً ‏{‏منكم أحد‏}‏ إذ لا فائدة فيه لأن الملتفت غير ثابت، لأنه إما غير مستيقن لخبرنا أو متوجع لهم، فمن التفت ناله العذاب، وذلك أيضاً أجد في الهجرة، وأسرع في السير، وأدل على إخراج ما خلفوه من منازلهم وأمتعتهم من قلوبهم، وعلى أنهم لا يرقون لمن غضب الله عليهم مع أنهم ربما رأوا ما لا تطيقه أنفسهم ‏{‏وامضوا حيث‏}‏ وتعبيره بالمضارع يشعر بأنه يكون معهم بعض الملائكة عليهم السلام في قوله‏:‏ ‏{‏تؤمرون *‏}‏‏.‏

ولما تقرر بهذا أمر إهلاكهم من غير تصريح ولا تعيين لوقت، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقضينا‏}‏ أي بما لنا من العظمة، موحين ‏{‏إليه‏}‏ أي خاصة ‏{‏ذلك الأمر‏}‏ وأشار إلى تعظيمه بالإشارة إليه بأداة البعد، ثم فسره بقوله‏:‏ ‏{‏أن دابر‏}‏ أي آخر ‏{‏هؤلاء‏}‏ أي الحقيرين عند قدرتنا، وأشار بصيغة المفعول إلى عظمته سبحانه وسهولة الأمر عنده فقال تعالى‏:‏ ‏{‏مقطوع‏}‏ حال كونهم ‏{‏مصبحين *‏}‏ ولا يقطع الدابر حتى يقطع ما دونه، لأن العدو يكون مستقبلاً لعدوه، فهو كناية عن الاستئصال بأن آخرهم وأولهم في الأخذ سواء، لأن الآخذ قادر، لا كما يفعل بعض الناس مع بعض من أنهم يملون في آخر الوقائع فيفوتهم البعض‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 72‏]‏

‏{‏وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏67‏)‏ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ ‏(‏68‏)‏ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ‏(‏71‏)‏ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

فلما تم ما دار بينه وبين الرسل مقدماً لما بيّن، أتبعه البيان عن حال قومه إشارة إلى أن الملائكة إن كانوا بصفات البشر لم يعرفهم الكفرة، وإن كانوا بصفاتهم أو بإظهار شيء من خوارقهم لم تحتمله قواهم، فلا نفع لهم في مكاشفتهم في حالة من الحالات، فسؤالهم الإتيان بهم جهل عظيم، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وجاء أهل المدينة‏}‏ أي التي كان هذا الأمر فيها- قالوا‏:‏ وهي سدوم- لإرادة عمل الفاحشة بالأضياف ‏{‏يستبشرون *‏}‏ أي يلوح على بشراتهم السرور، فهم يوجدونه لأنفسهم إيجاد من هو شديد الرغبة في طلبه، فكان حال لوط عليه السلام أن ‏{‏قال‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء‏}‏ أي الأقرباء مني ‏{‏ضيفي‏}‏‏.‏

ولما كان إكرام الضيف إكراماً لمن هو عنده وإهانته إهانته، سبب عن ذلك ما أشار إليه الكلام فقال‏:‏ ‏{‏فلا تفضحون *‏}‏ في إصابتهم بفاحشة، وكان ذلك قبل معرفته أنهم ملائكة ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي الذي له جميع العظمة ‏{‏ولا تخزون *‏}‏ أي بإهانة ضيفي، فيكون ذلك عاراً عليّ مدى الدهر، فلم يكفهم ذلك بل ‏{‏قالوا‏}‏ بفظاظة، عاطفين على ما تقديره‏:‏ ألم تعلم أنا لا نترك هذا الأمر لشيء من الأسباب‏:‏ ‏{‏أو لم ننهك‏}‏ أي من قبل هذا ‏{‏عن العالمين *‏}‏ أن تجير علينا أحداً منهم، فما وصلوا إلى هذا الحد من الوقاحة، ذكر لهم الحريم ليحملهم ذلك على الحياء، لأنه دأب من له أدنى مروءة ولا سيما ذكر الأبكار في سياق يكاد يصرح بمراده، بأن ‏{‏قال هؤلاء‏}‏ مشيراً إلى بيته الذي فيه بناته صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن ‏{‏بناتي إن كنتم‏}‏ ولا بد ‏{‏فاعلين *‏}‏ أي قد عزمتم عزماً ماضياً على هذا الفعل، إشارة بأداة الشك إلى أن هذا الفعل مما لا ينبغي أن يفعل، يعني وأنتم عالمون بأني لا أسلم بناتي أبداً، فعلم من ذلك أن وصولكم إلى أضيافي دون هلاكي محال‏.‏

ولما ذكر ما ذكر من أمورهم وعظيم فجورهم، وهم قد فرغ من أمرهم وقضي باستئصالهم، كان كل من يعلم ذلك قاضياً بأنهم لا عقول لهم، فأتبع سبحانه ذلك ما يدل عليه بقوله‏:‏ ‏{‏لعمرك‏}‏ أي وحياتك يا كريم الشمائل، وأكد لأن الحال قاض في ذلك الحين استبعاد ردهم، ولتحقيق أن ذلك ضلال منهم صرف وتعنت محض، فقال‏:‏ ‏{‏إنهم لفي سكرتهم‏}‏ أي غوايتهم الجاهلية ‏{‏يعمهون *‏}‏ أي يتحيرون ولا يبصرون طريق الرشد، فلذلك لا يقبلون قول النصوح، فإن كان المخاطب لوطاً عليه السلام، كان ضمير الغيبة لقومه، وإن كان المخاطب نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو الظاهر- كان الضمير لقومه، وكان التقدير أنهم في خبط بعيد عن السنن في طلبهم إتيان الملائكة كما كان قوم لوط عليه السلام يقصدون الالتذاذ بالفاحشة بمن مكن من هلاكهم، فشتان ما بين القصدين‏!‏ وهيهات لما بين الفعلين‏!‏ فصار المعنى أن ما قذفوك به أول السورة بهم لابك، لأن من يطلب إتيان الملائكة- مع جواز أن يكون حاله حال قوم لوط عليه السلام عند إتيانهم- هو المجنون؛ والعمر- بالفتح‏:‏ العمر- بالضم، وهو مدة بقاء الشيء حيّاً، لكنه لا يقال في القسم إلا بالفتح لخفته مع كثرة دور القسم، ولذلك حذفوا الذي تقديره‏:‏ قسمي، والسكرة‏:‏ غمور السهو للنفس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 79‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ‏(‏73‏)‏ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏74‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ‏(‏75‏)‏ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ‏(‏76‏)‏ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏77‏)‏ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏79‏)‏‏}‏

ولما تم ذلك، سبب عن القضاء دابرهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأخذتهم‏}‏ أي أخذ انتقام وغلبة ‏{‏الصيحة‏}‏ أي التي هي لعظمها وهولها هي الصيحة، وغيرها عدم بالنسبة إليها؛ والأخذ‏:‏ فعل يصير به الشيء في جهة الفاعل، والصيحة‏:‏ صوت يخرج من الفم بشدة؛ وقوله‏:‏ ‏{‏مشرقين *‏}‏ أي داخلين في الإشراق، وهو ضياء الشمس عند بزوغها، وتبين به أن وقته يسمى صبحاً لغة، فإن الصبح والصبّاح والإصباح أول النهار، ولعله يطلق عليه إلى وقت الغداء أو الزوال، أو تكون الصيحة وقت الإشراق آخر أمرهم، وقلع المدائن من أماكنها وقت الصبح ابتداء أمرهم؛ ثم بين سبحانه ما تسبب عن الصيحة متعقباً لها فقال‏:‏ ‏{‏فجعلنا عاليها‏}‏ أي مدائنهم ‏{‏سافلها وأمطرنا‏}‏‏.‏

ولما كان الزجر في هذه السورة أعظم من الزجر في سورة هود عليه السلام، لطلبهم أن يأتي بجميع الملائكة، أعاد الضمير على المعذبين لا على مدنهم- كما مضى في سورة هود عليه السلام- لأن هذا أصرح، فقال‏:‏ ‏{‏عليهم‏}‏ أي أهل المدائن التي قلبت المدائن لأجلهم ‏{‏حجارة من سجيل‏}‏ ثم حقق أن ذلك كله شرح لقوله ‏{‏وليذكر أولوا الألباب‏}‏ بقوله‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم جداً ‏{‏لآيات‏}‏ أي عدة من جهة غمرها بالماء بعد خسفها، ومن جهة كونه مخالفاً لمياه الأرض بالنتن والخباثة، وعدم عيش الحيوان فيه، وعدم النفع به، ومن جهة فظاعة منظرة- وغير ذلك من أمره ‏{‏للمتوسمين *‏}‏ جمع متوسم، وهو الناظر في السمة الدالة- وهي الأثر الدال في الوجه- والقرائن القاضية بالخير والشر، وكانوا يدعون أنهم أبصر الناس بمثل ذلك، فهو إلهاب لهم وتبكيت؛ ثم بين أن ذلك غير خفي عنهم ولا بعيد عمن أراد الاتعاظ به، فقال جعلاً لهم- لعدم اعتبارهم بها ومع رؤيتهم إياها في كل حين- في عداد المنكرين‏:‏ ‏{‏وإنها‏}‏ أي هذه المدائن ‏{‏لبسبيل مقيم *‏}‏ أي ثابت، وهو مع ذلك مبين، فالاعتبار بها في غاية السهولة لقومك، وكانوا يمرون عليها في بعض أسفارهم إلى الشام‏.‏

ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال بالتوسم الدال- مما هي عليه من المخالفة لسائر مياه الأرض العذبة الورادة إليها على كثرتها ومع أن البلاد التي هي بها من أبهج البلاد في عذوبة المياه وطراوة الأرض وحسن الأشجار وغير ذلك- على أن لها نبأ هو في غاية الغرابة، وأتبع ذلك سهولة الوصول إليها حثاً على إتيانها بقصد نظرها والاعتبار بها والسؤال عن سبب كونها كذلك، قال تعالى مشيراً إلى زيادة الحث بالتأكيد‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم من حالها ‏{‏لآية‏}‏ أي علامة عظيمة في الدلالة علينا ‏{‏للمؤمنين *‏}‏ أي الراسخين في الصدق والتصديق، فإذا أخبروا أن سبب كونها هكذا أن الله أمر بعض جنده فرفعها ثم قلبها ثم أتبعها الحجارة ثم خسف بها وغمرها بهذا الماء- الذي هو في القذارة وعدم الثمرة مناسب لأفعال أهلها- لأجل عصيانهم رسوله صلى الله علية وعلى آله وسلم، آمنوا حذراً من مثل هذا العذاب إيماناً بالغيب‏.‏

ولما ذكر هذه القصة، ضم إليها ما هو على طريقها مما عذب قومه بنوع آخر من العذاب يشابه عذاب قوم لوط في كونه ناراً من السماء، فقال مؤكداً لأجل إنكار الكفار أن يكون عذابهم لأجل التكذيب، أو عدّاً لهم- لأجل تماديهم على الغواية مع العلم به- عداد المنكرين‏:‏ ‏{‏وإن‏}‏ أي وإنه ‏{‏كان‏}‏ أي جبلة وطبعاً ‏{‏أصحاب الأيكة‏}‏ وهم قوم شعيب عليه السلام؛ والأيكة‏:‏ الشجرة- عن الحسن، وجمعه الأيك كشجرة وشجر، وقيل‏:‏ الأيكة‏:‏ الشجر الملتف ‏{‏لظالمين *‏}‏ أي العريقين في الظلم ‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ أي بسبب ذلك؛ ثم أخبر عن البلدين لتقاربهما في العذاب والمكان وكونهما على طريق واحدة من طرق متاجر قريش فقال‏:‏ ‏{‏وإنهما‏}‏ أي قرى قوم لوط ومحال أصحاب الأيكة ‏{‏لبإمام‏}‏ أي طريق يؤم ويتبع ويهتدي به ‏{‏مبين *‏}‏ واضح لمن أراده، بحيث إنه من شدة وضوحه موضح لعظمة الله وانتصاره لأنبيائه ممن يكذبهم، وهو مع وضوحه مقيم في مكانه لم تندرس أعلامه، ولم تنطمس آثاره، فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر في الأولى ‏{‏مقيم‏}‏ دلالة على حذف مثله ثانياً، وفي الثانية ‏{‏مبين‏}‏ دلالة على حذف مثله أولاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 84‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏80‏)‏ وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏81‏)‏ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ ‏(‏82‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ‏(‏83‏)‏ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

ولما كان ربما قيل‏:‏ إنه لو كان لأصحاب الأيكة بيوت متقنة لمنعتهم من العذاب‏؟‏ عطف عليهم من هم على طريق أخرى من متاجرهم إلى الشام، وكانوا قد طال اغترارهم بالأمل حتى اتخذوا الجبال بيوتاً، وكانت آيتهم في غاية الوضوح فكذبوا بها، تحقيقاً لأن المتعنتين لو رأوا كل آية لقالوا إنما سكرت أبصارنا فقال‏:‏ ‏{‏ولقد كذب‏}‏‏.‏

ولما كان السياق للمكذبين وما وقع لهم بتكذيبهم، قدم فاعل، فقال مشيراً إلى إتقان بيوتهم‏:‏ ‏{‏أصحاب الحجر‏}‏ وهم ثمود قوم صالح عليه السلام، وديارهم بين المدينة الشريفة والشام ‏{‏المرسلين *‏}‏ أي كلهم بتكذيب رسولهم كما كذب هؤلاء المرسلين بتكذيبك، لأن الرسل يشهد بعضهم لبعض بالصدق، فمن كذب واحداً منهم فقد كذب الجميع، وهم في إثبات الرسالة بالمعجزة على حد سواء؛ ثم أتبع ذلك قوله‏:‏ ‏{‏وءاتيناهم‏}‏ أي بعظمتنا على يد رسولهم صالح عليه السلام ‏{‏ءاياتنا‏}‏ أي كلها، بإيتاء الناقة وسقيها ودرها وشربها، لأن الممكنات كلها بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فمن كذب بواحدة منها فقد كذب بالجميع ‏{‏فكانوا‏}‏ أي كوناً هو كالجبلة ‏{‏عنها‏}‏ أي الآيات كلها خاصة، لا عن زينة الدنيا التي تجر إلى الباطل ‏{‏معرضين *‏}‏ أي راسخين في الإعراض، لم يؤمنوا بها، التفاتاً إلى قوله تعالى ‏{‏ولو فتحنا عليهم باباً من السماء‏}‏- الآيتين، وتمثيلاً له رداً للمقطع على المطلع؛ ثم أخبر أنهم كانوا مثل هؤلاء في الأمن من العذاب والغفلة عما يراد بهم مع أنهم كانوا أشد منهم فقال‏:‏ ‏{‏وكانوا ينحتون‏}‏ والنحت‏:‏ قلع جزء بعد حزء من الجسم على سبيل المسح ‏{‏من الجبال‏}‏ التي تقدم أنا جعلناها رواسي ‏{‏بيوتاً ءامنين *‏}‏ عليها من الانهدام، وبها من لحاق ما يكره، لا كبيوتكم التي لا بقاء لها على أدنى درجة ‏{‏فأخذتهم‏}‏ أي فتسبب عن تكذيبهم أن أخذتهم أخذ العذاب والانتقام ‏{‏الصيحة‏}‏ حال كونهم ‏{‏مصبحين *‏}‏ أي داخلين في الصبح ‏{‏فما‏}‏ أي فتسبب عن الصيحة أنه ما ‏{‏أغنى‏}‏ أي أجزأ ‏{‏عنهم ما كانوا‏}‏ أي بجبلاتهم ‏{‏يكسبون *‏}‏ من البيوت والأعمال والعدد والآلات الخبيثة، لأنه لا يعجزنا شيء لأنه لا كلفة علينا فيما نفعل ‏{‏إنما نقول له كن فيكون‏}‏ وفعلنا بهم ذلك لأنهم كانوا على باطل، فكان تعذيبنا لهم حقاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏85- 87‏]‏

‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ‏(‏85‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏86‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

ولما كان المتعنت ربما قال‏:‏ ما له يخلقهم ثم يهلكهم وهو عالم حين خلقهم أنهم يكذبون‏؟‏ وكانت هذه الآية ملتفتة- مع ما فيها من ذكر الأرض- إلى تلك التي أتبعها ذكر الخافقين، استدلالاً على الساعة، قال على ذلك النمط‏:‏ ‏{‏وما خلقنا‏}‏ أي على عظمتنا ‏{‏السماوات‏}‏ أي على ما لها من العلو والسعة ‏{‏والأرض‏}‏ على ما بها من المنافع والغرائب ‏{‏وما بينهما‏}‏ من هؤلاء المكذبين وعذابهم، ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك ‏{‏إلا بالحق‏}‏ أي خلقاً ملتبساً بالحق، فيتفكر فيه من وفقه الله فيعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى، أو بسبب الحق من إثبات ثوابت الأمور ونفي مزلزلها، لتظهر عظمتنا بإنصاف المظلوم من الظالم، وإثابة الطائع وعقاب العاصي في يوم الفصل- إلى غير ذلك من الحكم كما قال تعالى ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 31‏]‏ فمن أمهلناه في الدنيا أخذنا منه الحق بعد قيام الساعة، فلا بد من فعل ذلك ‏{‏وإن الساعة لآتية‏}‏ لأجل إقامة الحق لا شك في إتيانها لحكم علمها سبحانه فيظهر فيها كل ذلك، ويمكن أن يكون التقدير‏:‏ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما فعلنا ذلك إلا بالأمر من قولنا «كن» وهو الحق ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ أي بالأمر ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ يعني أنه لا مشقة علينا في شيء من ذلك، وسنعدم ذلك بالحق إذا أردنا قيام الساعة، وأن الساعة لآتيه، لأنا قد وعدنا بذلك، وليس بينكم وبين كونها إلا أن نريد فتكون كما كان غيرها مما أردناه ‏{‏فاصفح الصفح‏}‏ أي فأعرض- بسبب تحقق الأخذ بثارك- الإعراض ‏{‏الجميل *‏}‏ بالحلم ولإغضاء وسعة الصدر، في مثل قولهم ‏{‏ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ فإنه لا بد من الأخذ لك منهم بالحق ولو لم يكن لك نصرة إلا في ذلك اليوم لكانت كافية؛ ثم علل هذا الأمر بقوله‏:‏ ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك الآمر لك بهذا ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏الخلاّق‏}‏ المتكرر منه هذا الفعل في كل وقت بمجرد الأمر، فلا عجب في إيجاد ما ينسب إليه من إبداع الساعة أو غيرها، وهو لذلك عالم بأحوالكم أجمعين وما يكون منها صلاحاً لك على غاية الحكمة، لأن المصور أعلم بالصورة من ناظرها والمتبصر فيها، وصانع الشيء أدرى به من مشتريه، وباني البيت أخبر به من ساكنه، وهو الذي خلق كل ما تراه منهم فهو فعله فسلم له‏.‏

ولما كان إحكام المصنوعات لا يتم إلا بالعلم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏العليم *‏}‏ أي البالغ العلم بكل المعلومات، فلا ترى أفعالهم وأقوالهم إلا منه سبحانه لأنه خالقها، وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة فاعتمد عليه في أخذ حقك، فإنه نعم المولى ونعم النصير، ولا يخفي عليه شيء منه؛ ويدل على ما قلته آية يس

‏{‏أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 81‏]‏ أو يقال‏:‏ فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون شيئاً مما أردنا من الحق، لأنا ما خلقنا عذابهم إلا بالحق كما خلقناهم بالحق، فلم يمتنع علينا شيء من ذلك ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ أي بسبب إقامة الحق وإظهار أمرنا في العدل، ولولا أن سلطنا بعض الناس على بعض لم يظهر لهم منا هذه الصفة غاية الظهور، فنحن نعجل من الحق الذي خلقنا ذلك بسببه على قيام الساعة- ما شئنا من الابتلاء والانتقام كما فعلنا ممن قصصنا أمرهم، ونؤخر من ذلك ما بقي إلى قيام الساعة ‏{‏وإن الساعة لآتية‏}‏ لا شك فيها، فلا ندع هناك شيئاً من الحقوق إلا أقمناه ‏{‏فأصفح الصفح الجميل‏}‏ فلا بد من الأخذ لك بحقك إما في الدنيا وإما في الآخرة أن أي لأن ‏{‏ربك هو الخلاّق‏}‏ أي الفاعل للخلق مرة بعد مرة، لا تنفذ قدرته ولا تهن كلمته ‏{‏العليم‏}‏ التام العلم، فهو قادر على ذلك عالم بوجه الحكمة فيه في وقته وكيفيته، فهو يعيد الخلائق في الساعة كما بدأهم، ويستوفي إذ ذاك جميع الحقوق ويؤتيك في ذلك اليوم ما يقر به عينك‏.‏

ولما ذكر صفة العلم بصيغة المبالغة، أتبعها ما آتاه في هذه الدار من مادة العلم بصيغة العظمة، فقال عطفاً على ما قدرته مما دل عليه السياق‏:‏ ‏{‏ولقد آتيناك‏}‏ مما يدل على علمنا ‏{‏سبعاً من المثاني‏}‏ وهي الفاتحة الجامعة على وجازتها جميع معاني القرآن فتثني في النزول فإنها نزلت مرتين، وتثني في كل ركعة من الصلاة، وهي ثناء على الله والصالحين من عباده، وهي مقسومة بين الله وعبده، وتثني فيه مقاصدها، ويورد كل معنى من معانيها فيه بطرق مختلفة في إيضاح الدلالة عليه في قوالب الألفاظ وجواهر التراكيب الهادية إليه- وغير ذلك من التثنية ‏{‏والقرآن العظيم *‏}‏ أي الحاوي لجميع علوم الأولين والآخرين مما في جميع الكتب السالفة وغيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 94‏]‏

‏{‏لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏88‏)‏ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ‏(‏89‏)‏ كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ‏(‏90‏)‏ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ ‏(‏91‏)‏ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏92‏)‏ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏93‏)‏ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

ولما كان ما أوتيه وما سيؤتاه أعظم ما أوتيه مخلوق، اتصل به قوله‏:‏ ‏{‏لا تمدن عينيك‏}‏ أي مداً عظيماً بالتمني والاشتهاء المصمم، ولذلك ثنى العين احتزازاً عن حديث النفس ‏{‏إلى ما متعنا‏}‏ أي على عظمتنا ‏{‏به أزواجاً‏}‏ أي أصنافاً ‏{‏منهم‏}‏ أي أهل الدنيا؛ أو يقال‏:‏ إنه لما كان المقصود لكل ذي لب إنما هو التبليغ بدار الفناء إلى دار البقاء، المؤكد إتيانها في الآية السابقة، وكان القرآن- كما تقدم- كفيلاً بذلك، وسلاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عما يؤذونه من أقوالهم، وتبين من ذلك علو درجته، توقع السامع ذكر ما أسبغ عليه من النعم فقال تعالى؛ أو يقال‏:‏ إنه لما أمره سبحانه بالصبر على أذاهم، علل ذلك مما معناه أنهم خلقه، وأنه منفرد بالخلق، وهو بليغ العلم بأفعالهم مريد لها، فليس الفعل في الحقيقة إلا له، وعلى المحب أن يرضى بفعل حبيبه من حيث إنه فعله، ولما كان التقدير‏:‏ فهو الذي خلقهم، وعلم قبل خلقهم ما يفعلون، عطف عليه تسلية له صلى عليه وعلى آله وسلم قوله ‏{‏ولقد آتيناك‏}‏ أي بما لنا من العظمة كما أتينا صالحاً ما تقدم ‏{‏سبعاً من المثاني‏}‏ يكون كل سبع منها كفيلاً بإغلاق باب من أبواب النيران السبعة، وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة، زيادة في حفظها، وتبركاً بلفظها، وتذكيراً لمعانيها، تخصيصاً لها عن بقية الذكر الذي تكلفنا بحفظه ‏{‏و‏}‏ آتيناك ‏{‏القرآن العظيم‏}‏ الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفلة بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى، المشار إلى عظمته أول السورة بالتنوين ووصفه بأنه مبين للبراهين الساطعة على نبوتك، والأدلة القاطعة على رسالتك، الدالة على الله الموصلة إليه، والآية مع ذلك دليل على العلم المختتم به ما قبلها، فكأنه قيل‏:‏ فماذا أعمل‏؟‏ فقيل في معنى ‏{‏ذرهم يأكلوا‏}‏‏:‏ ‏{‏لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم‏}‏ اكتفاء بهذا البلاغ العظيم الذي من تحلى به وأشربه قلبه أراه معايب هذه الدار فبغضه فيها وأشرف به على ما أمامه ‏{‏ولا تحزن عليهم‏}‏ لكونهم لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار، ويقوى بهم جانب الإسلام، وكأن هذا هو الصفح المأمور به، وهو الإعراض عنهم أصلاً ورأساً إلا في أمر البلاغ‏.‏

ولما أمره في عشرتهم بما أمر، أتبعه أمره بعشرة أصحابه رضي الله عنهم بالرفق واللين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏واخفض‏}‏ أي طأطئ ‏{‏جناحك للمؤمنين *‏}‏ أي العريقين في هذا الوصف، واصبر نفسك معهم، واكتفِ بهم، فإن الله جاعل فيهم البركة، وناصرك ومعز دينك بهم، وغير محوجك إلى غيرهم، فمن أراد شقوته فلا تلتفت إليهم، وهذا كناية عن اللين، وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه عليه- قاله أبو حيان؛ وفي الجزء العاشر من الثقفيات عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏

«المؤمن لين حتى تخاله من اللين أحمق»‏.‏

ولما كان الغالب على الخلق التقصير، قال له‏:‏ ‏{‏وقل‏}‏ أي للفريقين، مؤكداً لما للكفار من التكذيب، ولما للمؤمنين به من طيب النفس‏:‏ ‏{‏إني أنا‏}‏ أي لا غيري من المنذرين بالأعداء الدنيوية ‏{‏النذير المبين *‏}‏ لمن تعمد التقصير، إنذاري منقذ له من ورطته، لأنه محتف بالأدلة القاطعة‏.‏

ولما ذكر ما التحم بقصة أصحاب الحجر المقتسمين على قتل رسولهم، وختمه بالإنذار الذي هم أهله، عاد إلى تتميم أمرهم فشبههم بمن كذب من هذه الأمة فقال‏:‏ ‏{‏كما‏}‏ أي كذب أولئك وآتيناهم آياتنا فأعرضوا عنها ففعلنا بهم من العذاب ما هم أهله مثل ما ‏{‏أنزلنا‏}‏ أي بعظمتنا من الآيات ‏{‏على المقتسمين *‏}‏ أي مثلهم من قريش حيث اقتسموا شعاب مكة، ينفرون الناس عنك ويفرقون القول في القرآن، فلا تأس عليهم لتكذيبهم وعنادهم مع رؤيتهم الآيات البينات، فإن سنتنا جرت بذلك فيمن أردنا شقوته كقوم صالح؛ ثم قال‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏ أي مع أنهم تقاسموا على قتلك واقتسموا طرق مكة للتنفير عنك ‏{‏جعلوا القرءان‏}‏ بأقوالهم ‏{‏عضين *‏}‏ أي قسموا القول فيه والحال أنه جامع المعاني، لا متفرق المباني- منتظم التأليف أشد انتظام‏.‏ متلائم الارتباط أحكم التئام، كما قدمنا الإشارة إليه بتسميته كتاباً وقرآناً، وختمنا بأن ذلك على وجه الإبانة لاخفاء فيه، فقولهم كله عناه، فقالوا‏:‏ سحر، وقالوا‏:‏ شعر، وقالوا‏:‏ كهانة، وقالوا‏:‏ أساطير الأولين- وغير ذلك، أنزلنا عليهم آياتنا البينات وأدلتنا الواضحات، فأعرضوا عنها واشتغلوا بما لا ينفعهم من التعنت وغيره دأب أولئك فليرتقبوا مثل ما حل بهم، ومثلهم كل من تكلم في القرآن بمثل ذلك مما لا ينبغي من العرب وغيرهم؛ وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ‏{‏جعلوا القرآن عضين‏}‏ قال‏:‏ هم أهل الكتاب‏:‏ اليهود والنصارى، جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه‏.‏ وسيأتي معنى هذه اللفظة ‏{‏فوربك‏}‏ أي فتسبب عن فعلهم هذا أنا نقسم بالموجد لك، المدبر لأمرك، المحسن إليك بإرسالك ‏{‏لنسئلنهم أجمعين *‏}‏ أي هؤلاء وأولئك ‏{‏عما كانوا‏}‏ أي كوناً هو جبلة لهم ‏{‏يعملون *‏}‏ أي من تعضية القرآن وغيرها لأنا نسأل كلاًّ عما صنع ‏{‏فاصدع‏}‏ أي اجهر بعلو وشدة، فارقاً بين الحق والباطل بسبب ذلك ‏{‏بما تؤمر‏}‏ به من القرآن وكتاب مبين ‏{‏وأعرض‏}‏ أي إعراض من لا يبالي ‏{‏عن المشركين *‏}‏ بالصفح الجميل عن الأذى والاجتهاد في الدعاء، ويؤيد أن قوله ‏{‏كما‏}‏ راجع إلى قصة صالح ومتعلق بها- وإن لم أر من سبقني إليه- ذكرُ الوصف الذي به تناسبت الآيتان وهو الاقتسام، ثم وصف المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين، لئلا يظن أنهم الذين تقاسموا في بيات صالح، أي أتينا أولئك الآيات المقتضية للإيمان فما كان منهم إلا التكذيب والتقاسم كما أنزلنا على هؤلاء الآيات فما كان منهم إلا ذلك، وإنما عبر في أولئك ب ‏{‏ءاتيناهم‏}‏ لأن آياتهم الناقة وولدها والبئر، وهي معطاة محسوسة، لا منزلة معقولة، وقال في هؤلاء أنزلنا إشارة إلى القرآن الذين هو أعظم الآيات، أو إلى الجميع وغلب عليها القرآن لأنه أعظمها، وإلى أنهم مبطلون في جحدهم وأنه لا ينبغي لهم أن يتداخلهم نوع شك في أنه منزل لأنه أعظم من تلك الآيات مع كونها محسوسات، وأما اعتراض ما بينهما من الآيات فمن أعظم أفانين البلاغة، فإنه لما أتم قصة صالح عليه السلام، علم أنه المتعنتين ربما قالوا‏:‏ لأيّ شيء يخلقهم ثم يهلكهم مع علمه بعدم إجابتهم‏؟‏ فرد عليهم بأنه ما خلق ‏{‏السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ من هؤلاء المعاندين ومن أفعالهم وعذابهم وغير ذلك ‏{‏إلا بالحق وأن الساعة لآتية‏}‏ فيعلم ذلك كله بالعيان من يشك فيه الآن، وذلك حين يكشف الغطاء عن البصائر والأبصار فاصفح عنهم، فإنه لا بد من الأخذ لك بحقك، إن لم يكن في الدنيا ففي يوم الجمع، ثم أكد التصرف بالحكمة بقوله ‏{‏إن ربك هو الخلاّق العليم‏}‏ ثم سلاه- عما يضيّقون به صدره من التكذيب بالساعة، وأن الوعد بها إنما هو سحر، ونحو ذلك من القول، ومن افتخارهم بأموالهم ونسبته إلى الحاجة إلى المشي بالأسواق- بما آتاه من كنوز القرآن، وأمره بأن يزيد في التواضع واللين للمؤمنين لتطيب نفوسهم فلا يأسوا على ما فاتهم من الدنيا، وأن ينذر الجميع ويحذرهم من سطوات الله أمثال ما أنزل بالأقدمين، ثم عاد إليهم فشبههم بهؤلاء في التكذيب ليعلم أنهم أجدر منهم بالعذاب لأنهم مشبه بهم، والمشبه به أعلى من المشبه، وذلك لكونهم أشد كفراً لأن نبيهم أعظم وآياته أجل وأكثر، وأجلى وأبهر، فيكون ذلك سبب اشتداد حذرهم، ولك أن تقول ولعله أحسن‏:‏ إنه تعالى لما ذكر أن ثمود سكنوا الأرض سكنى الآمنين‏.‏

فأزعجتهم عنها صيحه سلبت أرواحهم، وقلبت أشباحهم، كما سيكون لأهل الأرض قاطبة بنفخة الصور، عند نفوذ المقدور، وكان قد قدم ذكر كثير مما في السماوات والأرض من الآيات والعبر بقوله تعالى ‏{‏ولقد جعلنا في السماء بروجاً‏}‏ وما بعد ذلك من الجن والإنس وغيرهما مما جعل ذكر اختراعه دليلاً على الساعة، أتبع ذلك أن سبب خلق ذلك كله وما حواه من الخافقين إنما هو الساعة فقال ‏{‏وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق‏}‏ أي بالأمر الثابت لا بالتمويه والسحر كما أنتم تشاهدون، أو بسبب إقامة الحق وإبانته من الباطل إبانة لا شك فيها يوم الجمع الأكبر، ومن إقامة الحق تنعيم الطائع وتعذيب العاصي، وذلك بعد إتيان الساعة بنفختي الصور ‏{‏وإن الساعة لآتيه بالحق‏}‏ أيضاً، وليست سحراً كما تظنون، ولما كان إتيانها لهذا العرض مما يشفي القلب لإدراك الثأر وهو حق لا بد منه، تسبب عنه قوله تعالى ‏{‏فاصفح الصفح الجميل‏}‏‏.‏

ولما كانت النفس بخبر الأعلم أوثق، وكان صانع الشيء أعلم به من غيره فكيف إذا كان مع ذلك تام للعلم قال الله تعالى معللاً لذلك ‏{‏إن ربك‏}‏ أي المحسن إليك ‏{‏وهو الخلاّق‏}‏ أي التام القدرة على الإيجاد والإعدام، الفعال لذلك «العليم» البالغ العلم؛ ولما ختم بهذين الوصفين بعد تقدم الأخبار عما أوتى أهل الحجر من الآيات، وأنه خلق الوجود بالحق لا بالتمويه، وكان ذلك موجباً لتوقع الإخبار عما أوتي هذا النبي الكريم منها لإرشاد أمته، وكانت الآيات إما أن تكون من قسم الخلق كآية صالح، أو من قسم الأمر الذي هو مدار العلم، أشار إلى تفضيله صلى الله عليه وسلم بفضل ابنه، فقال عاطفاً على ذلك ‏{‏ولقد ءاتيناك‏}‏ أي إن كنا أتينا صالحاً أو غيره آية مضت فلم يبق إلا ذكرها فقد آتيناك ‏{‏سبعاً من المثاني‏}‏ وهي الفاتحة التي خصصت بها، ثنى فيها البسملة للمبادئ، والحمدلة للكمالات، والرحمانية والرحيمية فيها للإبداع الأول والمرضي من الأعمال، وملك الدنيا المسمى بالربوبية لكونه مستوراً، وملك يوم الدين، وبينهما رحمانية الإيجاد الثاني بالمعاد ورحيمية الثواب للمرضي من الأسباب، والعبادة التي لا تكون إلا مع القدرة والاختيار، والاستعانة الناظرة إلى العجز عن كمال الاقتدار، والهداية بالهادي والمهدي، والضلال في مقابل ذلك بالمضل والضال، وفي ذلك أسرار لا تسعها الأفكار ‏{‏والقرآن الكريم‏}‏ الجامع لجميع الآيات مع كونه حقاً ثابتاً لا سحراً وخيالاً، بل هو آية باقية على وجه الدهر، مستمراً أمرها، دائماً تلاوتها وذكرها، تفني الجبال الرواسي وهي باقية، وتزول السماوات والأراضي وهي جديدة، إذا اصطف عسكر الفجرة قالت كل آية منها هل من مبارز‏؟‏ وإن رام عدو مطاولة لتحققه بالضعف صاحت لدوام قوتها‏:‏ إني أناجز فلا تقوم لها قائم، ولا يحوم حول حماها حائم، ولا يروم خوض بحرها رائم‏.‏

ولما كانت هذه الآية لصاحبها مغنية، ولمن فاز بقبولها معجبة مرضية، حسن كل الحسن اتباعها بقوله ‏{‏لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم‏}‏ ولما كان كفرهم بعد بيانها إنما هو عناد، قال تعالى «ولا تحزن عليهم» ولما كان الغني بها ربما طن حسن أنفة الغنى، عقبه قوله ‏{‏واخفض جناحك للمؤمنين‏}‏ ولما كان ربما ظن أن تلاوتها تغني عن الدعاء لا سيما لمن أعرض، نفى ذلك بقوله ‏{‏وقل إني أنا النذير المبين‏}‏ تحريضاً على الاجتهاد في التحذير، وتثبيتاً للمؤمنين وإرغاماً للمعاندين، واستجلاباً لمن أراد الله إسعاده من الكافرين، إعلاماً بأن القلوب للمؤمنين بيد الله سبحانه وتعالى، فلا وثوق مع ذلك بمقبل، ولا يأمن عن مدبر‏.‏

ولما تم ذلك على هذا النظم الرصين، والربط الوثيق المتين، التفت الخاطر إلى حال من يندرهم، وكان كفار قريش- في تقسيمهم القول في القرآن واقتسامهم طرق مكة لإشاعة ذلك البهتان، تنفيراً لمن أراد الإيمان- أشبه شيء بالمقتسمين على صالح عليه السلام، قال تعالى ‏{‏كما‏}‏ أي آتينا أولئك المقتسمين آياتنا فكانوا عنها معرضين، مثل ما ‏{‏أنزلنا‏}‏ آياتنا ‏{‏على المقتسمين‏}‏ أي الذين تقاسموا برغبة كبيرة واجتهاد في ذلك ‏{‏الذين جعلوا القرآن عضين‏}‏ أي ذا أعضاء أي أجزاء متفاصلة متباينة مثل أعضاء الجزور إذا قطعت، جمع عضة مثل عدة وأصلها عضوة ‏{‏فوربك لنسئلنهم أجمعين‏}‏ أي لا يمتنع علينا منهم أحد ‏{‏عما كانوا يعملون فاصدع‏}‏ أي بسبب أمرنا لك بالإنذار وإخبارك أنا نسأل كل واحد عما عمل ‏{‏بما تؤمر وأعرض عن المشركين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 99‏]‏

‏{‏إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ‏(‏95‏)‏ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ‏(‏97‏)‏ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏98‏)‏ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ‏(‏99‏)‏‏}‏

ولما كان هذا الصدع في غاية الشدة عليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكثرة ما يلقى عليه الأذى، خفف عنه سبحانه بقوله معللاً له‏:‏ ‏{‏إنا كفيناك‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏المستهزءين *‏}‏ أي شر الذين هم عريقون في الاستهزاء بك وبما جئت به، فأقررنا عينك بإهلاكهم، وزال عنك ثقل ما آذوك به، وبقي لك أجره، وسنكفيك غيرهم كما كفيناكهم، ثم وصفهم بقوله‏:‏ ‏{‏الذين يجعلون مع الله‏}‏ أي مع ما رأوا من آياته الدالة على جلاله، وعظيم إحاطته وكماله ‏{‏إلهاً‏}‏‏.‏

ولما كانت المعية تفهم الغيرية، ولا سيما مع التعبير بالجعل، وكان ربما تعنت منهم متعنت باحتمال التهديد على تألهه سبحان على سبيل التجريد، أو على دعائه باسم غير الجلالة، لما ذكر المفسرون في قوله ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ الآية آخر سبحان، زاد في الصراحة بنفي كمال كل احتمال بقوله‏:‏ ‏{‏ءاخر‏}‏ قال البغوي‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ سجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمكة ذات ليلة فجعل يقول في سجوده‏:‏ يا الله يا رحمن، فقال أبو جهل‏:‏ إن محمداً ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية يعني آية سبحان، وتسبب عن أخذنا للمستهزئين- وكانوا أعتاهم- أن يهدد الباقون بقولنا‏:‏ ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ أي يحيط علمهم بشدة بطشنا وقدرتنا على ما نريد، ليكون وازعاً لغيرهم، أو يعلم المستهزئون وغيرهم عاقبة أمورهم في الدارين‏.‏

ولما كان صدعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك على حد من المشقة عظيم وإن أريح من المستهزئين، لكثرة من بقي ممن هو على مثل رأيهم، قال يسليه ويسخي بنفسه فيه‏:‏ ‏{‏ولقد نعلم‏}‏ أي تحقق وقوع علمنا على ما لنا من العظمة ‏{‏أنك‏}‏ أي على ما لك من الحلم وسعة البطان ‏{‏يضيق صدرك‏}‏ أي يوجد ضيقه ويتجدد ‏{‏بما يقولون‏}‏ عند صدعك لهم بما تؤمر، في حقك من قولهم‏:‏ ‏{‏ياأيها الذي نزل عليه الذكر‏}‏ إلى آخره، وفي حق الذي أرسلك من الشرك والصاحبة والولد وغير ذلك ‏{‏فسبح‏}‏ بسبب ذلك، ملتبساً ‏{‏بحمد ربك‏}‏ أي نزهه عن صفات النقص التي منها الغفلة عما يعمل الظالمون، مثبتاً له صفات الكمال التي منها إعزاز الولي وإذلال العدو ‏{‏وكن‏}‏ أي كوناً جبلياً لا انفكاك له ‏{‏من الساجدين *‏}‏ له، أي المصلين، أي العريقين في الخضوع الدائم له بالصلاة التي هي أعظم الخضوع له وغيرها من عبادته، ليكفيك ما أهمك فإنه لا كافي غيره، فلا ملجأ إلى سواه، وعبر عنها بالسجود إشارة إلى شرفه وما ينبغي من الدعاء فيه لا سيما عند الشدائد، فقد قال تعالى‏:‏

‏{‏واستعينوا بالصبر والصلاة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 45‏]‏ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة- ذكره البغوي بغير سند، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود عن حذيفة رضي الله عنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا حزبه أمر صلى‏.‏ وفي سنن النسائي الكبرى ومسند أحمد عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إنسان إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح‏.‏ وفي لفظ لأحمد‏:‏ لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح‏.‏ ولأحمد ومسلم وأبي يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال‏:‏ «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»‏.‏

ولما أمره بعبادة خاصة، أتبعه بالعامة فقال‏:‏ ‏{‏واعبد ربك‏}‏ أي دم على عبادة المسحن إليك بهذا القرآن الذي هو البلاغ بالصلاة وغيرها ‏{‏حتى يأتيك اليقين‏}‏ بما يشرح صدرك من الموت أو ما يوعدون به من الساعة أو غيرها مما ‏{‏يود الذين كفروا معه لو كانوا مسلمين‏}‏ قال الرازي في اللوامع‏:‏ وهذا دليل على أن شرف العبد في العبودية، وأن العبادة لا تسقط عن العبد بحال ما دام حياً- انتهى‏.‏ وقال البغوي‏:‏ وهذا معنى ما في سورة مريم عليها السلام ‏{‏وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 31‏]‏ فقد انطبق آخر السورة- في الأمر باتخاذ القرآن بلاغاً لكل خير والإعراض عن الكفار- على أولها أتم انطباق، واعتنق كل من الطرفين‏:‏ الآخر والأول أي اعتناق- والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب‏.‏

سورة النحل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏1‏)‏ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ ‏(‏2‏)‏ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏بسم الله‏}‏ المحيط بدائرة الكمال ما شاء فعل ‏{‏الرحمن‏}‏ الذي عمت نعمته جليل خلقه وحقيره وصغيره وكبيره ‏{‏الرحيم *‏}‏ الذي خص من شاء بنعمة النجاة مما يسخطه بما يرضاه‏.‏

لما ختم الحجر بالإشارة إلى إتيان اليقين، وهو صالح لموت الكل، ولكشف الغطاء بإتيان ما يوعدون مما يستعجلون به استهزاء من العذاب في الآخرة بعد ما يلقون في الدنيا، ابتدأ هذه بمثل ذلك سواء، غير أنه ختم تلك باسم الرب المفهم للإحسان لطفاً بالمخاطب، وافتتح هذه باسم الأعظم الجامع لجميع معاني الأسماء لأن ذلك أليق بمقام التهديد، ولما ستعرفه من المعاني المتنوعة في أثناء السورة، وسيكرر هذا الاسم فيها تكريراً تعلم منه صحة هذه الدعوى، وعبر عن الآتي بالماضي إشارة إلى تحققه تحقق ما وقع ومضى، وإلى أن كل آتٍ ولا بد قريب، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ أي الملك الأعظم الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، بما يذل الأعداء، ويعز الأولياء، ويشفي صدورهم، ويقر أعينهم‏.‏

ولما كانت العجلة نقصاً، قال مسبباً عن هذا الإخبار‏:‏ ‏{‏فلا تستعجلوه‏}‏ أيها الأعداء استهزاء، وأيها الأولياء استكفاء واستشفاء، وذلك مثل ما أفهمه العطف في قوله تعالى ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم‏}‏ كما تقدم؛ والضمير يجوز أن يكون لله وأن يكون للأمر‏.‏

ولما كان الجزم بالأمور المستقبلة لا يليق إلا عند نفوذ الأمر، ولا نفوذ إلا لمن لا كفوء له، وكانت العجلة- وهي الإتيان بالشيء قبل حينه الأولى به- نقصاً ظاهراً لا يحمل عليها إلا في ضيق الفطن، وكان التأخير لا يكون إلا عن منازع مشارك، نزه نفسه سبحانه تنزيهاً مطلقاً جامعاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانه‏}‏ أي تنزه عن الاستعجال وعن جميع صفات النقص ‏{‏وتعالى‏}‏ أي تعالياً عظيماً جداً ‏{‏عما يشركون *‏}‏ أي يدعون أنه شريك له، فلا مانع مما يريد فعله، وساقه في غير قراءة حمزة والكسائي- في أسلوب الغيبة، إظهاراً للإعراض الدال على شدة الغضب، وهي ناظرة إلى قوله آخر التي قبلها ‏{‏وأعرض عن المشركين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 94‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يجعلون مع الله إلهاً ءاخر‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 96‏]‏ وقد آل الأمر في نظم الآية إلى أن صار كأنه قيل‏:‏ إنه لا يعجل لأنه منزه عن النقص، ولا بد من إنفاذ أمره لأنه متعالٍ عن الكفوء؛ أو يقال‏:‏ لا تستعجلوه لأنه تنزه عن النقص فلا يجعل، وتعالى عن أن يكون له كفوء يدفع ما يريد فلا بد من وقوعه، فهي واقعة موقع التعليل لصدر الآية كما أن صدر الآية تعليل لآخر سورة الحجر‏.‏

ولما تقرر بذلك تنزهه عن كل نقص‏:‏ شرك وغيره، شرع يصف نفسه سبحانه بصفات الكمال من الأمر والخلق، ولما كان الأمر أقدم وأعلى، بدأ به، ولما كان من أمره إنزال الملائكة على الصورة التي طلبوها في قولهم

‏{‏لو ما تأتينا بالملائكة‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 7‏]‏ وقص عليهم في سورة إبراهيم ولوط عليهما السلام ما يترتب على إنزالهم مجتمعين، وفهم منه أن لهم في نزولهم حالة أخرى لا تنكرها الرسل، وهي حالة الإتيان إليهم بالعلم الذي نسبته إلى الأرواح نسبة الأرواح إلى الأشباح، وكان ذلك ربما أثار لهم اعتراضاً يطلبون به الفرق بينهم وبين الرسل في إنزالهم عليهم دونهم- كما تقدم في الحجر، وكان ما يشركون به لا تصرف له أصلاً بإنزال ولا غيره، قال تعالى مشيراً إلى ذلك وإلى أن الوحي بواسطة الملك، وأن النبوة عطائية لا كسبية‏:‏ ‏{‏ينزل الملائكة‏}‏ الذين هم الملأ الأعلى ‏{‏بالروح‏}‏ أي المعنى الأعظم الذي هو للأرواح بمنزلة الأرواح للأشباح ‏{‏من أمره‏}‏ الذي هو كلامه المشتمل على الأمر والنهي ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏ وهو مما تميز به لحقيته وإعجازه عن جميع المخلوقات، فكيف بما لا يعقل منها كالأصنام‏!‏ ‏{‏على ما يشاء من عباده‏}‏ دون بعض، لأن ذلك نتيجة فعله بالاختيار، وأبدل من الروح أو فسر الإنزال بالوحي لأنه متضمن معنى القول فقال‏:‏ ‏{‏أن أنذروا‏}‏ أي الناس سطواتي، فإنها لا محالة نازلة بمن أريد إنزالها به، بسبب ‏{‏أنه لا إله إلا أنا‏}‏ وعبر بضمير المتكلم لأنه أدل على المراد لكونه أعرف؛ وسبب عن وحدانيته التي هي منتهى كمال القوة العلمية قوله آمراً بما هو أقصى كمال القوة العملية‏:‏ ‏{‏فاتقون *‏}‏ أي فليشتد خوفكم مني وأخذكم لما يكون وقاية لكم من عذابي، فإنه لا مانع مما أريد، فمن علمت أنه أهل للنقمة أنزلتها به، ومن علمته أهلاً لتلقي الروح منحته إياه‏.‏

ولما وحد نفسه، دل على ذلك بقوله، شارحاً لإيجاده أصول العالم وفروعه على وجه الحكمة‏:‏ ‏{‏خلق السماوات‏}‏ أي التي هي السقف المظل ‏{‏والأرض‏}‏ أي التي هي البساط المقل ‏{‏بالحق‏}‏ أي بالأمر المحقق الثابت، لا بالتمويه والتخييل ‏{‏ألا له الخلق والأمر‏}‏‏.‏

ولما كان ذلك من صفات الكمال المستلزمة لنفي النقائص، وكان قاطعاً في التنزه عن الشريك، لأنه لو كان، لزم إمكان الممانعة، فلزم العجز عن المراد، أو وجود الضدين المرادين لهما، وكل منهما محال، فإمكان الشريك محال، ولأنهما وكل ما فيهما ملكه وفي تصرفه، لا نزاع لمن أثبت الإله في ذلك، تلاه بقوله- نتيجة لذلك دالة على أنه تعالى ليس من قبيل الأجرام‏:‏ ‏{‏تعالى‏}‏ أي تعالياً فات الوصف ‏{‏عما يشركون *‏}‏- عرياً عن افتتاحه بالتنزيه كالأولى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 6‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏4‏)‏ وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏5‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

ولما كان خلق السماوات والأرض غيباً لتقدمه، وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة، مع كونه أدل على ذلك من حيث إنه أشرف من كل ما يعبده من دون الله، ولن يكون الرب أدنى من العبد أصلاً، قال معللاً‏:‏ ‏{‏خلق الإنسان‏}‏ أي هذا النوع الذي خلقه أدل ما يكون على الوحدانية والفعل بالاختيار، لأنه أشرف ما في العالم السفلي من الأجسام لمشاركته للحيوان الذي هو أشرف من غيره بالقوى الشريفة من الحواس الظاهرة والباطنة، والشهوة والغضب، واختصاصه بالنطق الذي هو إدراك الكليات والتصرف فيها بالقياسات ‏{‏من نطفة‏}‏ أي آدم عليه السلام من مطلق الماء، ومن تفرع منه بعد زوجه من ماء مقيد بالدفق‏.‏

ولما كان- مع مشاركته لغيره من الحيوان في كونه من نطفة- متميزاً بالنطق المستند إلى ما في نفسه من عجائب الصنع ولطائف الإدراك، كان ذلك أدل دليل على كمال قدرة الفاعل واختياره، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا هو‏}‏ أي الإنسان المخلوق من الماء المهين ‏{‏خصيم‏}‏ أي منطيق عارف بالمجادلة ‏{‏مبين *‏}‏ أي بين القدرة على الخصام، وموضح لما يريده غاية الإيضاح بعد أن كان ما لا حسّ به ولا حركة اختيارية عنده بوجه، أفلا يقدر الذى ابتدأ ذلك على إعادته‏!‏

ولما صار التوحيد بذلك كالشمس، وكان كل ما في الكون- مع أنه دال على الوحدانية- نعمة على الإنسان يجب عليه شكرها، شرع يعدد ذلك تنبيهاً له على وجوب الشكر بالتبرؤ من الكفر، فقال مقدماً الحيوانات لأنها أشرف من غيرها، وقدم منها ما ينفع الإنسان لأنه أجلّ من غيره‏.‏ مبتدئاً بما هو أولاها بالذكر لأنه أجلّها منفعة في ضرورات المعيشة وألزمها لمن أنزل الذكر بلسانهم‏:‏ ‏{‏والأنعام‏}‏ أي الأزواج الثمانية‏:‏ الضأن والمعز والإبل والبقر ‏{‏خلقها‏}‏ غير ناطقة ولا مبينة مع كونها أكبر منكم خلقاً وأشد قوة‏.‏

ولما كان أول ما يمكن أن يلقى الإنسان عادة من نعمها اللباس، بدأ به، فقال على طريق الاستئناف‏:‏ ‏{‏لكم فيها دفء‏}‏ أي ما يدفأ به فيكون منه حر معتدل من حر البدن الكائن بالدثار بمنع البرد، وثنى بما يعم جميع نعمها التي منها اللبن فقال‏:‏ ‏{‏ومنافع‏}‏ ثم ثلث بالأكل لكونه بعد ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومنها تأكلون *‏}‏ وقدم الظرف دلالة على أن الأكل من غيرها بالنسبة إلى الأكل منها مما لا يعتد به، ثم تلاه بالتجمل لأنه النهاية لكونه للرجال فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم‏}‏ أي أيها الناس خاصة ‏{‏فيها‏}‏ أي الأنعام ‏{‏جمال‏}‏ أي عظيم‏.‏

ولما كان القدوم أجل نعمة وأبهج من النزوح، قدمه فقال‏:‏ ‏{‏حين يريحون‏}‏ بالعشي من المراعي وهي عظيمة الضروع طويلة الأسنمة ‏{‏وحين تسرحون *‏}‏ بالغداة من المُراح إلى المراعي، فيكون لها في هاتين الحالتين من الحركات منها ومن رعاتها ومن الحلب والتردد لأجله وتجاوب الثغاء والرغاء أمر عظيم وأنس لأهلها كبير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 8‏]‏

‏{‏وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏7‏)‏ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

ولما كانت الأسفار بعد ذلك، تلاه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتحمل‏}‏ أي الأنعام ‏{‏أثقالكم‏}‏ أي أمتعتكم مع المشقة ‏{‏إلى بلد‏}‏ أي غير بلدكم أردتم السفر إليه ‏{‏لم تكونوا‏}‏- أي كوناً أنتم مجبولون عليه- قادرين على حملها إليه، وتبلغكم- بحملها لكم- إلى بلد لم تكونوا ‏{‏بالغيه‏}‏ بغير الإبل ‏{‏أي بشق‏}‏ أي بجهد ومشقة وكلفة ‏{‏الأنفس‏}‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ لم تبلغوه بها، فكيف لو لم تكن موجودة؛ والشق‏:‏ أحد نصفي الشيء، كأنه كناية عن ذهاب نصف القوة لما يلحق من الجهد؛ والآية من الاحتباك‏:‏ ذكر حمل الأثقال أولاً دليلاً على حمل الأنفس ثانياً، وذكر مشقة البلوغ ثانياً دليلاً على مشقة الحمل أولاً‏.‏

ولما كان هذا كله من الإحسان في التربية، ولا يسخره للضعيف إلا البليغ في الرحمة، وكان من الناس من له من أعماله سبب لرضى ربه، ومنهم من أعماله كلها فاسدة، قال‏:‏ ‏{‏إن ربكم‏}‏ أي الموجد لكم والمحسن إليكم ‏{‏لرؤوف‏}‏ أي بليغ الرحمة لمن يتوسل إليه بما يرضيه ‏{‏رحيم *‏}‏ أي بليغ الرحمة بسبب وبغير سبب‏.‏

ولما كانت الأنعام أكثر أموالهم، مع أن منافعها أكثر، بدأ بها ثم ثنى بما هو دونها، مرتباً له على الأشراف فالأشراف، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والخيل‏}‏ أي الصاهلة ‏{‏والبغال‏}‏ أي المتولدة بينها وبين الحمر ‏{‏والحمير‏}‏ أي الناهقة‏.‏

ولما كان الركوب فعل المخاطبين، وهو المقصود بالنفعة، ذكره باللام التي هي الأصل في التعليل فقال‏:‏ ‏{‏لتركبوها‏}‏ ولما كانت الزينة تابعة للمنفعة، وكانت فعلاً لفاعل الفعل المعلل، نصبت عطفاً على محل ما قبلها فقال‏:‏ ‏{‏وزينة‏}‏‏.‏

ولما دل على قدرته بما ذكر في سياق الامتنان، دل على أنها لا تتناهى في ذلك السياق، فنبه على أنه خلق لهم أموراً لو عدها لهم لم يفهموا المراد على سبيل التجديد والاستمرار في الدنيا والآخرة ‏{‏ما لا تعلمون *‏}‏ فلا تعلمون له موجداً غيره ولا مدبراً سواه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏9‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ‏(‏10‏)‏ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

ولما كانوا في أسفارهم واضطرابهم في المنافع بهذه الحيوانات وغيرها يقصدون أسهل الطرق وأقومها وأوصلها إلى الغرض، ومن عدل عن ذلك كان عندهم ضالاً سخيف العقل غير مستحق للعد في عداد النبلاء، نبههم على أن ما تقدم في هذه السورة قد بين الطريق الأقوم الموصل إليه سبحانه بتكفله ببيان أنه واحد قادر عالم مختار، وأنه هو المنعم، فوجب اختصاصه بالعبادة، وأخبرهم سبحانه أنه أوجب هذا البيان على نفسه فضلاً منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى‏}‏ أي قد بين لكم الطريق الأمم وعلى ‏{‏الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل الشيء ‏{‏قصد السبيل‏}‏ أي بيان الطريق العدل، وعلى الله بيان الطريق الجائر حتى لا يشك في شيء منهما، فإن الطريق المعنوية كالحسية، منها مستقيم من سلكه اهتدى ‏{‏ومنها جائر‏}‏ من سلكه ضل عن الوصول فهلك ‏{‏وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 115‏]‏ الآية ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ فالآية من الاحتباك‏:‏ ذكر أن عليه بيان القصد أولاً دلالة على حذف أن عليه بيان الجائر ثانياً، وذكر أن من الطرق الجائر ثانياً دلالة على حذف أن منها المستقيم أولا، وتعبير الأسلوب لبيان أن المقصود بالذات إنما هو بيان النافع، ومادة قصد تدور على العدل المواه، ومنه القصد، أي الاستقامة، واستقامة الطريق من غير تعريج، وضد الإفراط كالاقتصاد، ورجل ليس بالجسيم ولا بالضئيل، وذلك لا يكون إلا عن إرادة وتوجه، فإطلاق القصد على العزم مستقيماً كان أو جائراً، إذا قلت‏:‏ قصدته- بمعنى أتيته أو أممته ونويته، من دلالة الالتزام، وكذا القصد بمعنى الكسر بأيّ وجه كان، وقيل‏:‏ لا يقال‏:‏ قصد، إلا إذا كان بالنصف، والقصيد‏:‏ ما تم شطر أبياته، لأن ذلك أعدل حالاته، قال في القاموس‏:‏ ثلاثة أبيات فصاعداً أو ستة عشر فصاعداً؛ وقال الإمام أبو الفتح عثمان بن جني في آخر كتابه المغرب في شرح القوافي‏:‏ فالبيت على ثلاثة أضرب‏:‏ قصير، ورمل، وزجر، فأما القصيد فالطويل التام، والبسيط التام، والكامل التام، والمديد التام، والوافر التام، والرجز التام، والخفيف التام، وهو كل ما تغنى به الركبان، ومعنى قولنا‏:‏ المديد التام والوافر التام‏.‏ نريد أتم ما جاء منهما في الاستعمال، أعني الضربين الأولين منهما، فأما أن يجيئا على أصل وضعهما في دائرتيهما فذلك مرفوض مطّرخ؛ والقصيد‏:‏ المخ السمين أو دونه، والعظم الممخ، والناقة السمينة بها نفي، والسمين من الأسنمة- لأن بهذا الحال استقامة كل ما ذكر، وكذا القاصد‏:‏ القريب، وبيننا وبين الماء ليلة قاصدة، أي هينة السير، لأنه أقرب إلى الاستقامة، ومنه قصدت كذا- إذا اعتمدته وأممته وتوجهت إليه سواء كان ذلك عدلاً أو جوراً، وانقصد الرمح- إذا انكسر على السواء، كأنه مطاوع قصده، والواحدة من تلك الكِسَر قصده بالكسر، ورمح قصد- ككتف‏:‏ متكسر، والقصد- بالتحريك‏:‏ العوسج- لأنه سريع التكسر، والجوع- لأن الجائع قاصد لما يأكله متوجه إليه، والقصد‏:‏ مشرة العضاه تخرج في أيام الخريف لدنة تتثنى في أطراف الأغصان، وهي خوصة تخرج فيها، وفي كثير من الشجر في تلك الأيام، أو هي الأغصان، أو هي الأغصان الرطبة قبل أن تتلون وتشتد- سميت بذلك لخروجها وتوجهها إلى منظر العين، أو توجه النظر إليها للسرور بها، والقصيد‏:‏ العصا- لأنها تقصد ويقصد بها، وأقصد السهم‏:‏ أصاب فقتل مكانه، وأقصد فلاناً‏:‏ طعنه فلم يخطئه، والحية‏:‏ لدغت فقتلت- يمكن أن يكون ذلك من الاستقامة لأن قصد فاعله القتل، فكأنه استقام قصده بنفوذه، ويمكن أن يكون من السلب أي أنه أزال الاستقامة لأن من مات فقد زالت استقامة حياته، ومنه المقصد كمخرج، وهو من يمرض ويموت سريعاً، والقصيد بمعنى اليابس من اللحم- فعيل بمعنى مفعل، أي أقصد فزالت استقامته بأن هلك جفافاً يبساً‏.‏

والصدق ضد الكذب، وهو من أعدل العدل وأقوم القصد، والصدق‏:‏ الشدة، إذ بها يمتحن الصادق من الكاذب، ومنه رجل صدق، أي يصدق ما يعزم عليه أو يقوله بفعله، فهو شديد العزم سديد الأمر، والصديق- كأمير‏:‏ الحبيب الذي يصدق قوله في الحب بفعل، والمصادقة والصداق- بالكسر‏:‏ المخالة كالتصادق، والصيدق- كصقيل‏:‏ الأمين- لأنه مصدق في قوله، والملك- لأن محله يقتضي الصدق لعدم حاجته إلى الكذب، والقطب- لأنه أصدق النجوم دلالة لثباته، وقال أبو عبد الله القزاز‏:‏ هو اسم للسها، وهو النجم الخفي الذي مع بنات نعش، والصدق- بالفتح‏:‏ الصلب المستوي من الرماح- لأنه صدق ظن الطاعن به، وكذا من الرجال، والكامل من كل شيء، ورجل صدق اللقاء والنظر، ومصداق الشيء‏:‏ ما يصدقه، وشجاع ذو مصدق- كمنبر‏:‏ صادق الحملة، أي شديدها، والصدقة- محركة‏:‏ ما أعطيته في ذات الله لأنها تصدق دعوى الإيمان لدلالتها على شدة العزم فيه، والصدقة- بضم الدال وسكونها‏:‏ مهر المرأة لأنه يصدق العزم فيه وكسكيت‏:‏ الكثير الصدق، وصدقت الله حديثاً إن لم أفعل كذا- يمين لهم، أي لا صدقت، وفعله غب صادقة، أي بعد ما تبين له الأمر، وصدقه تصديقاً- ضد كذبه، والوحشي‏:‏ عدا ولم يلتفت لما حمل عليه، والمصدق- كمحدث‏:‏ آخذ الصدقات، والمتصدق‏:‏ معطيها‏.‏

ولما كان أكثر الخلق ضالاً، كان ربما توهم متوهم أنه خارج عن الإرادة، فنفي هذا التوهم بقوله- عطفاً على ما تقديره‏:‏ فمن شاء هداه قصد السبيل، ومن شاء أسلكه الجائر، وهو قادر على ما يريد من الهداية والإضلال-‏:‏ ‏{‏ولو شاء‏}‏ هدايتكم ‏{‏لهداكم أجمعين *‏}‏ بخلق الهداية في قلوبكم بعد بيان الطريق القصد، ولكنه لم يشأ ذلك فجعلكم قسمين‏.‏

ولما كان ما مضى كفيلاً ببيان أنه الواحد المختار، شرع يوضح ذلك بتفصيل الآيات إيضاحاً يدعه في أتم انكشاف في سياق معدّد للنعم مذكر بها داع إلى شكرها، فقال بعد ما دل به من الإنسان وما يليه في الشرف من الحيوان مبتدئاً بما يليهما في الشرف من النبات الذي هو قوام حياة الإنسان وما به قوام حياته من الحيوان‏:‏ ‏{‏هو‏}‏ لا غيره مما تدعي فيه الإلهية ‏{‏الذي أنزل‏}‏ أي بقدرته الباهرة ‏{‏من السماء‏}‏ قيل‏:‏ نفسها‏.‏ وقيل‏:‏ جهتها، وقيل‏:‏ السحاب- كما هو مشاهد ‏{‏ماء‏}‏ أي واحداً تحسونه بالذوق والبصر ‏{‏لكم منه‏}‏ أي خاصة ‏{‏شراب‏}‏ ظاهر على وجه الأرض من العيون والأنهار والغدران وغيرها‏.‏

ولما كان أول ما يقيم الآدمي شراب اللبن الناشئ عن الماء فقدمه، أتبعه ما ينشأ منه أشرف أغذيته وهو الحيواني، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ومنه شجر‏}‏ لسريانه في الأرض الواحدة واختلاطه بها، فينعقد من ذلك نبات ‏{‏فيه تسيمون *‏}‏ أي ترعون على سبيل الإطلاق ليلاً ونهاراً ما خلق لكم من البهائم، والشجر هنا- بما أفهمته الإسامة- عام لما يبقى في الشتاء حقيقة، ولغيره مجازاً؛ قال القزاز‏:‏ الشجر ما بقي له ساق في الشتاء إلى الصيف، ثم يورق، والبقل ما لا يبقى له ساق، قال الخليل‏:‏ جل الشجر عظامه وما يبقى منه في الشتاء، ودقه صنفان‏:‏ أحدهما تبقى له أرومة في الأرض في الشتاء، وينبت في الربيع، ومنه ما ينبت من الأرض كما تنبت البقلة، والفرق بينه وبين البقل أن الشجر يبقى له أرومة على الشتاء ولا يبقى للبقل، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن النبات ثلاثة أقسام‏:‏ شجر وهو ما يبقى في الشتاء، ولا يذهب فرعه ولا أصله، وما نبت في بزر ولم ينبت في أرومة ثابتة فهو البقل، وما نبت في أرومة- أي أصل- وكان مما يهلك فرعه وأصله في الشتاء فهو الجنبة، لأنه فارق الشجر الذي يبقى فرعه وأصله، والبقل الذي يبيد فرعه وأصله، فكان جنبة بينهما‏.‏

ولما كان الشجر عاماً، شرع سبحانه يفصله تنويعاً للنعم وتذكيراً بالتفاوت، إشارة إلى أن الفعل بالاختيار، فقال مبتدئاً بالأنفع في القوتية والائتدام والتفكه‏:‏ ‏{‏ينبت‏}‏ أي هو سبحانه ‏{‏لكم‏}‏ أي خاصة ‏{‏به‏}‏ مع كونه واحداً في أرض واحدة ‏{‏الزرع‏}‏ الذي تشاهدونه من أقل الشجر مكثاً وأصغره قدراً، ‏{‏والزيتون‏}‏ الذي ترونه من أطول الأشجار عمراً وأعظمها قدراً‏.‏

ولما كانت المنافع كثيرة في شجر التمر، سماه باسمه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والنخيل‏}‏ ولما كانت المنفعة في الكرم بغير ثمرته تافهة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والأعناب‏}‏ وهما من أوسط ذلك ‏{‏ومن كل الثمرات‏}‏ وأما كلها فلا يكون إلا في الجنة، وهذا الذي في الأرض بعض من ذلك الكل مذكر به ومشوق إليه ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الماء العظيم المحدث عنه وعن فروعه، أو في إنزاله على الصفة المذكورة ‏{‏لآية‏}‏ بينة على أن فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده‏.‏

ولما كان ذلك ممن يحس، وكان شغل الحواس بمنفعته- لقربه وسهولة ملابسته- ربما شغل عن الفكر في المراد به، فكان التفطن لدلالته يحتاج إلى فضل تأمل ودقة نظر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقوم يتفكرون *‏}‏ أي في أن وحدته وكثرة ما يتفرع عنه دليل على وحدة صانعه وفعله بالاختيار، وأفرد الآية لوحدة المحدث عنه، وهو الماء- كما قال تعالى في آية ‏{‏تسقى بماء واحد‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 4‏]‏ وسيأتي في آية النحل كلام الإمام أبي الحسن الحرالي في هذا‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ هذه السورة في التحامها بسورة الحجر مثل الحجر بسورة إبراهيم من غير فرق، لما قال تعالى ‏{‏فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 92‏]‏ وقال تعالى بعد ذلك في وعيد المستهزئين ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ أعقب هذا ببيان تعجيل الأمر فقال تعالى ‏{‏أتى أمر الله فلا تستعجلوه‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏ وزاد هذا بياناً قوله ‏{‏سبحانه وتعالى عما يشركون‏}‏ فنزه سبحانه نفسه عما فاهوا به في استهزائهم وشركهم وعظيم بهتهم، وأتبع ذلك تنزيهاً وتعظيماً فقال تعالى ‏{‏خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون‏}‏ ثم أتبع ذلك بذكر ابتداء خلق الإنسان وضعف جبلته ‏{‏خلق الإنسان من نطفة‏}‏ ثم أبلغه تعالى حداً يكون فيه الخصام والمحاجة، كل ذلك ابتلاء منه واختبار ليميز الخبيث من الطيب، وأعقب هذا بذكر بعض ألطافه في خلق الأنعام وما جعل فيها من المنافع المختلفة، وما هو سبحانه عليه من الرأفة والرحمة اللتين بهما أخر العقوبة عن مستوجبها، وهدى من لم يستحق الهداية بذاته بل كل هداية فبرأفة الخالق ورحمته، ثم أعقب ما ذكره بعد من خلق الخيل والبغال والحمير وما في ذلك كله بقوله ‏{‏ولو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ فبين أن كل الواقع من هداية وضلال خلقه وفعله، وأنه أوجد الكل من واحد، وابتدأهم ابتداء واحداً ‏{‏خلق الإنسان من نطفة‏}‏ فلا بعد في اختلاف غاياتهم بعد ذلك، فقد أرانا سبحانه مثال هذا الفعل ونظيره في قوله ‏{‏وهو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر- إلى قوله‏:‏ لآية لقوم يتفكرون‏}‏ انتهى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

ولما كان ربما قال بعض الضلال‏:‏ إن هذه الأشياء مستندة إلى تأثير الأفلاك، نبه على أنها لا تصلح لذلك بكونها متغيرة فلا بد لها من قاهر أثر فيها التغير، ولا يزال الأمر كذلك إلى أن ينتهي إلى واحد قديم فاعل بالاختيار، لما تقرر من بطلان التسلسل، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وسخر لكم‏}‏ أي أيها الناس لإصلاح أحوالكم ‏{‏الَّيل‏}‏ للسكنى ‏{‏والنهار‏}‏ للابتغاء؛ ثم ذكر آية النهار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والشمس‏}‏ أي لمنافع اختصها بها، ثم ذكر آية الليل فقال‏:‏ ‏{‏والقمر‏}‏ لأمور علقها به ‏{‏والنجوم‏}‏ أي لآيات نصبها لها، ثم نبه على تغيرها بقوله‏:‏ ‏{‏مسخرات‏}‏ أي بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها ‏{‏بأمره‏}‏ سبباً لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم، دلالة على وحدانيته وفعله بالاختيار، ولو شاء لأقام أسباباً غيرها أو أغنى عن الأسباب‏.‏

ولما كان أمرها مع كونه محسوساً- ليس فيه من المنافع القريبة الأمر السهلة الملابسة ما يشغل عن الفكر فيه، لم يحل أمره إلى غير مطلق العقل، إشارة إلى وضوحه وإن كان لا بد فيه من استعمال القوة المفكرة، ولأن الآثار العلوية أدل على القدرة الباهرة، وأبين شهادة للكبرياء والعظمة، فقال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي التسخير العظيم ‏{‏لآيات‏}‏ أي كثيرة متعددة عظيمة ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏ وجمع الآيات لظهور تعدادها بالتحديث عنها مفصلة‏.‏

ولما كان ما مضى موضعاً للتفكر المنتج للعلم بوحدة الصانع واختياره، وكان التفكر في ذلك مذكراً بما بعده من سر التفاوت في اللون الذي لا يمكن ضبط أصنافه على التحرير، وكان في ذلك تمام إبطال القول بتأثير الأفلاك والطبائع، لأن نسبتها إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة، قال تعالى عطفاً على الليل‏:‏ ‏{‏وما ذرأ‏}‏ أي خلق وبث وفرق التراب والماء ‏{‏لكم‏}‏ أي خاصة، فاشكروه واعلموا أنه ما خصكم بهذا التدبير العظيم إلا لحكم كبيرة أجلَّها إظهار جلاله يوم الفصل ‏{‏في الأرض‏}‏ أي مما ذكر ومن غيره حال كونه ‏{‏مختلفاً ألوانه‏}‏ حتى في الورقة، الواحدة، فترى أحد وجهيها- بل بعضه- في غاية الحمرة، والآخر في غاية السواد أو الصفرة ونحو ذلك، فلو كان المؤثر موجباً بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار، فعلم قطعاً أنه إنما هو قادر مختار، ولم يذكر اختلاف الصور لأن دلالتها- لأجل اختلاف أشكال النجوم من السماء وصور الجبال والروابي والوهاد من الأرض- ليست على إبطال الطبيعة كدلالة اختلاف اللون‏.‏

ولما كان ذلك- وإن كان خارجاً عن الحد في الانتشار- واحداً من جهة كونه لوناً، وحد الآية فقال‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ الذي ذرأه في هذه الحال على هذا الوجه العظيم ‏{‏لآية‏}‏ ولما نبه في التي قبلها على أن الأمر وصل في الوضوح إلى حد لا يحتاج معه إلى غير بديهة العقل، نبه هنا على أن ذلك معلوم طرأ عليه النسيان والغفلة، حثاً على بذل الجهد في تأمل ذلك، وإشارة إلى أن دلالته على المقصود في غاية الوضوح فقال‏:‏ ‏{‏لقوم يذكرون *‏}‏ ولو لم يمنعوا- بما أفاده الإدغام؛ والتذكر‏:‏ طلب المعنى بالتفكر في متعلقه، فلا بد من حضور معنى يطلب به غيره، وقد رتب سبحانه ذلك أبدع ترتيب، فذكر الأجسام المركبة عموماً، ثم خص الحيوان، ثم مطلق الجسم النامي وهو النبات، ثم البسائط من الماء ونحوه، ثم الأعراض من الألوان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

ولما دل على قدرته واختياره سبحانه دلالة على القدرة على كل ما أخبر به لاسيما الساعة، بخلق السماوات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس، ثم ذكر بعض ما في المكشوف من الأرض المحيط به الهواء من التفاوت الدال على تفرد الصانع واختياره، وختمه باللون، أتبع ذلك بالمغمور بالماء الذي لا لون له في الحقيقة، إشارة إلى أنه ضمنه من المنافع والحيوانات التي لها من المقادير والكيفيات والأشكال والألوان البديعة التخطيط، الغريبة الصباغ- ما هو أدل من ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وهو‏}‏ أي لا غيره ‏{‏الذي سخر البحر‏}‏ أي ذلَّله وهيأه لعيش ما فيه من الحيوان وتكون الجواهر، وغير ذلك من المنافع، والمراد به السبعة الأبحر الكائنة في الربع المرتفع عن الماء، وهو المسكون من كرة الأرض المادَّة من البحر المحيط الغامر لثلاثة أرباع الأرض، فجعله بالتسخير بحيث يتمكن الناس من الانتفاع به بالركوب والغوص وغيرهما ‏{‏لتأكلوا منه‏}‏ أي بالاصطياد وغيره من لحوم الأسماك ‏{‏لحماً طرياً‏}‏ لا تجد أنعم منه ولا ألين، وهو أرطب اللحوم فيسرع إليه الفساد فيبادر إلى أكله عذباً لذيذاً مع نشبه في ملح زعاق ‏{‏وتستخرجوا منه‏}‏ أي بجهدكم في الغوص وما يتبعه ‏{‏حلية تلبسونها‏}‏ أي نساؤكم، وهن بعضكم لكم، فكأن اللابس أنتم، وهي من الحجارة التي لا ترى أصلب منها ولا أصفى من اللؤلؤ وكذا من المرجان وغيره، مع نسبة هذا الصلب وذاك الطري إلى الماء، فلو أنه فاعل بطبعه لاستويا‏.‏

ولما ذكر المنافع العامة مخاطباً لهم بها، وكان المخر- وهو أن تجري السفينة مستقبلة الريح، فتشق الماء، فيسمع لجريها صوت معجب، وذلك مع الحمل الثقيل- آية عظيمة لا يتأملها إلا أرباب القلوب خص بالخطاب أعلى أولي الألباب، ومن قاربه في ابتغاء الصواب، فقال‏:‏ ‏{‏وترى الفلك‏}‏ ولما كان النظر إلى تعداد النعم هنا أتم منه في سورة فاطر، قدم المخر في قوله‏:‏ ‏{‏مواخر فيه‏}‏ أي جواري تشق الماء مع صوت، لتركبوها فتستدلوا- بعدم رسوبها فيه مع ميوعه ورقته وشدة لطافته- على وحدانية الإله وقدرته‏.‏

ولما علل التسخير بمنفعة البحر نفسه من الأكل وما تبعه، عطف على ذلك النفع به، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولتبتغوا‏}‏ أي تطلبوا طلباً عظيماً بركوبه ‏{‏من فضله‏}‏ أي الله بالتوصل بها إلى البلدان الشاسعة للمتاجر وغيرها ‏{‏ولعلكم تشكرون *‏}‏ هذه النعم التي أنتم عاجزون عنها لولا تسخيره؛ والمخر‏:‏ شق الماء عن يمين وشمال، وهو أيضاً صوت هبوب الريح إذا اشتد هبوبها، وقد ابتدئ فيه بما يغوص تارة ويطف أخرى بالاختيار، وثنى بما طبعه الرسوب، وثلث بما من طبعه الطفوف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ‏(‏15‏)‏ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏16‏)‏ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

ولما ذكر الأغوار، الهابطة الضابطة للبحار، أتبعها الأنجاد الشداد، التي هي كالأوتاد، تذكيراً بما فيها من النعم فقال‏:‏ ‏{‏وألقى في الأرض‏}‏ أي وضع فيها وضعاً، كأنه قذفه فيها قذفاً، جبالاً ‏{‏رواسي‏}‏ مماسة لها ومزينة لنواحيها، كراهة ‏{‏أن تميد‏}‏ أي تميل مضطربة يميناً وشمالاً، أي فيحصل لكم الميد، وهو دوار يعتري راكب البحر ‏{‏بكم‏}‏ فهي ثابتة لأجل ذلك الإلقاء، ثابتة مع اقتضائها بالكرية التحرك‏.‏

ولما ذكر الأوهاد، وأتبعها الأوتاد، تلاها بما تفجره غالباً منها، عاطفاً على ‏{‏رواسي‏}‏ لما تضمنه العامل من معنى «جعل» فقال‏:‏ ‏{‏وأنهاراً‏}‏ وأدل دليل على ثبات الأرض ما سبقها من ذكر البحار، ولحقها من الحديث عن الأنهار، فإنها لو تحركت ولو بمقدار شعرة في كل يوم لأغرقت البحارُ من إلى جانب الانخفاض، وتعاكست مجاري الأنهار، فعادت منافعها أشد المضار، ولو زادت البحار، بما تصب فيها الأنهار، على مر الليل وكر النهار، لأغرقت الأرض، ولكنه تعالى دبر الأمر بحكمته تدبيراً تعجز عن الاطلاع على كنهه أفكار الحكماء، بأن سلط حرارة الشمس على الأرض في جميع مدة الصيف وبعض غيره من الفصول، فسرت في أغوارها، وحميت في أعماقها في الشتاء، فأسخنت مياه البحار وغيرها فتصاعدت منها بخارات كما يتصاعد من القدر المغلي بقدر ما صبت فيها الأنهار، فانعقدت تلك البخارات في الجو مياهاً لما بردت، فنزل منها المطر، فأحيا الأرض بعد موتها، وتخلل أعماقها منه ما شاء الله، فأمد الأنهار، ولذلك تزيد بزيادة المطر وتنقص بنقصه، وهكذا في كل عام، فأوجب ذلك بقاء البحر على حاله من غير زيادة، فسبحان المدبر الحكيم العزيز العليم‏!‏ ولما ذكر ذلك، أتبعه ما يتوصل به إلى منافع كل منه فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وسبلاً‏}‏‏.‏

ولما كانت الجبال والبحار والأنهار أدلة على السبل الحسية والمعنوية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لعلكم تهتدون *‏}‏ أي يحصل الاهتداء فتهتدوا إلى مقاصدكم‏.‏

ولما كانت الأدلة في الأرض غير محصورة فيها، قال‏:‏ ‏{‏وعلامات‏}‏ أي من الجبال وغيرها، جمع علامة وهي صورة يعلم بها المعنى من خط، أو لفظ أو إشارة أو هيئة، وقد تكون علامة وضعية، وقد تكون برهانية‏.‏

ولما كانت الدلالة بالنجم أنفع الدلالات وأعمها وأوضحها براً وبحراً ليلاً ونهاراً، نبه على عظمها بالالتفات إلى مقام الغيبة لإفهام العموم لئلا يظن أن المخاطب مخصوص، وأن الأمر لا يتعداه، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وبالنجم هم‏}‏ أي أهل الأرض كلهم، وأولى الناس بذلك أول المخاطبين، وهم قريش ثم العرب كلها، لفرط معرفتهم بالنجوم ‏{‏يهتدون *‏}‏ وقدم الجار تنبيهاً على أن دلالة غيره بالنسبة إليه سافلة‏.‏

ولما لم يبق- بذكر الدلائل على الوحدانية على الوجه الأكمل، والترتيب الأحسن، والنظم الأبلغ- شبهة في أن الخالق إنما هو الله، لما ثبت من وحدانيته، وتمام علمه وقدرته، وكمال حكمته، لجعله تلك الدلائل نعماً عامة، ومنناً تامة، مع اتضاح العجز في كل ما يدعون فيه الإلهية من دونه، واتضاح أنه سبحانه في جميع صنعه مختار، للمفاوتة في الوجود والكيفيات بين ما لا مقتضى للتفاوت فيه غير الاختيار، فثبت بذلك أنه قادر على الإًّتيان بما يريد‏.‏

قال مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق‏}‏ أي يجدد ذلك حيث أراد ومتى أراد فلا يمكن عجزه بوجه لتمكن شركته ‏{‏كمن‏}‏ شركته ممكنة، فهو أصل في ذلك بسبب أنه ‏{‏لا يخلق‏}‏ أي لا يقع ذلك منه وقتاً ما من الأصنام وغيرها، في العجز عن الإتيان بما يقوله؛ المستلزم لأن يكون ممكناً مخلوقاً، ولو كان التشبيه معكوساً كما قيل لم يفد ما أفاد هذا التقدير من الإبلاغ في ذمهم بإنزال الأعلى عن درجته، وعبر ب «من» لأنهم سموها آلهة، وأنهى أمرها أن تكون عاقلة، فإذا انتفى عنها وصف الإلهية معه لعدم القدرة على شيء انتفى بدونه من باب الأولى‏.‏

ولما سبب عن هذه الأدلة إنكار تسويتهم الخالق بغيره في العجز، سبب عن هذا الإنكار إنكار تذكرهم، حثاً لهم على التذكر المفيد لترك الشرك فقال‏:‏ ‏{‏أفلا تذكرون *‏}‏ بما تشاهدونه من ذلك ولو من بعض الوجوه- بما أفاده الإدغام- لتذكروا ما يحق اعتقاده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏18‏)‏ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ‏(‏19‏)‏ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ‏(‏20‏)‏ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

ولما كانت المقدورات لا تحصر، وأكثرها نعم العباد مذكرة لهم بخالقهم، قال تعالى ممتناً عليهم بإحسانه من غير سبب منهم‏:‏ ‏{‏وإن تعدوا‏}‏ أي كلكم ‏{‏نعمة الله‏}‏ أي إنعام الملك الذي لا رب غيره، عليكم وإن كان في واحدة فإن شعبها تفوت الحصر ‏{‏لا تحصوها‏}‏ أي لا تضبطوا عددها ولا تبلغه طاقتكم مع كفرها وإعراضكم جملة عن شكرها، فلو شكرتم لزادكم من فضله‏.‏

ولما كانوا مستحقين لسلب النعم بالإعراض عن التذكير، والعمى عن التبصر، أشار إلى سبب إدرارها، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له صفات الكمال بجميع صفات الإكرام والانتقام ‏{‏لغفور رحيم *‏}‏ فلذلك هو يدر عليكم نعمه وأنتم منهمكون فيما يوجب نقمه‏.‏

ولما جرت العادة بأن المكفور إحسانه يبادر إلى قطعه عند علمه بالكفر، فكان ربما توهم متوهم أن سبب مواترة الإحسان عدم العلم بالكفران، أو عدم العلم بكفران لا يدخل تحت المغفرة، قال مهدداً مبرزاً للضمير بالاسم الأعظم الذي بنيت عليه السورة للفصل بالفرق بين الخالق وغيره ولئلا يتوهم تقيد التهديد بحيثية المغفرة إيماء إلى أن ذلك نتيجة ما مضى‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له الإحاطة الكاملة بجميع صفات الإكرام والانتقام ‏{‏يعلم‏}‏ أي على الإطلاق ‏{‏ما تسرون‏}‏ أي كله‏.‏ ولما كان الإسرار ربما حمل على حالة الخلوة، فلم يكن علمه دالاً على الإعلان، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما تعلنون *‏}‏ ليعلم مقدار المضاعفة لموجبات الشكر وقباحة الكفر، وأما الأصنام فلا تعلم شيئاً فلا أسفه ممن عبدها‏.‏

ولما أثبت لنفسه تعالى كمال القدرة وتمام العلم وأنه المنفرد بالخلق، شرع يقيم الأدلة على بعد ما يشركونه به من الإلهية بسلب تلك الصفات فقال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يدعون‏}‏ أي دعاء عبادة ‏{‏من دون الله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏لا يخلقون شيئاً‏}‏ ولما كان ربما ادعى مدع في شيء أنه لا يخلق ولا يخلق، قال‏:‏ ‏{‏وهم يخلقون *‏}‏‏.‏

ولما كان من المخلوقات الميت والحي، وكان الميت أبعد شيء عن صفة الإله، قال نافياً عنها الحياة- بعد أن نفى القدرة والعلم- المستلزم لأن يكون عبدتها أشرف منها المستلزم لأنهم بخضوعهم لها في غاية السفه‏:‏ ‏{‏أموات‏}‏ ولما كان الوصف قد يطلق على غير الملتبس به مجازاً عن عدم نفعه بضده وإن كان قائماً به عريقاً فيه قال‏:‏ ‏{‏غير أحياء‏}‏ مبيناً أن المراد بذلك حقيقة سلب الحياة على ضد ما عليه الله ‏{‏ألا له الخلق‏}‏ من كونه حياً لا يموت، ولعله اقتصر على وصفهم- مع أنهم موات- بأنهم أموات لأن ذلك مع كونه كافياً في المقصود من السياق- وهو إبعادهم عن الإلهية- يكون صالحاً لكل مخلوق ادعى فيه الإلهية وإن اتصف بالحياة، لأن حياته زائلة يعقبها الموت، ومن كان كذلك كان بعيداً عن صفة الإلهية‏.‏

ولما كانوا- مع علمهم بأن الأصنام حجارة لا حياة لها- يخاطبون من أجوافها بألسنة الشياطين- كما هو مذكور في السير وغيرها من الكتب المصنفة في هواتف الجان، فصاروا يظنون أن لها علماً بهذا الاعتبار، ولذلك كانوا يظنون أنها تضر وتنفع، احتيج إلى نفي العلم عنها، ولما كانوا يخبرون على ألسنتها ببعض ما يسترقونه من السمع، فيكون كما أخبروا، لم ينف عنها مطلق العلم، بل نفي ما لا علم لأحد غير الله به، لأنهم لا يخبرون عنه بخبر إلا بان كذبه، فقال تعالى عادّاً للبعث عداد المتفق عليه‏:‏ ‏{‏وما يشعرون‏}‏ أي في هذا الحال كما هو مدلول ما ‏{‏أيان‏}‏ أي أيّ حين ‏{‏يبعثون *‏}‏ فنفى عنهم مطلق الشعور الذي هو أعم من العلم، فينتفي كل ما هو أخص منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ‏(‏22‏)‏ لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ‏(‏23‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

ولما كانت أدلة البعث قد ثبت قيامها، واتضحت أعلامها، وعلا منارها، وانتشرت أنوارها، ساق الكلام فيها مساق ما لا خلاف إلا في العلم بوقته مع الاتفاق على أصله، لأنه من لوازم التكليف، ولما اتضح بذلك كله عجز شركائهم، أشار إلى أن منشأ العجز قبول التعدد، إرشاداً إلى برهان التمانع، فقال على طريق الاستئناف لأنه نتيجة ما مضى قطعاً‏:‏ ‏{‏إلهكم‏}‏ أي أيها الخلق كلكم، المعبود بحق ‏{‏إله‏}‏ أي متصف بالإلهية على الإطلاق بالنسبة إلى كل أحد وكل زمان وكل مكان ‏{‏واحد‏}‏ لا يقبل التعدد- الذي هو مثار النقص- بوجه من الوجوه، لأن التعدد يستلزم إمكان التمانع المستلزم للعجز المستلزم للبعد عن رتبة الإلهية ‏{‏فالذين‏}‏ أي فتسبب عن هذا أن الذين ‏{‏لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ أي دار الجزاء ومحل إظهار الحكم الذي هو ثمرة الملك والعدل الذي هو مدار العظمة ‏{‏قلوبهم منكرة‏}‏ أي جاهلة بأنه واحد، لما لها من القسوة لا لاشتباه الأمر- لما تقدم في هود من أن مادة «نكر» تدور على القوة وهي تستلزم الصلابة فتأتي القسوة ‏{‏وهم‏}‏ أي والحال أنهم بسبب إنكار الآخرة ‏{‏مستكبرون *‏}‏ أي صفتهم الاستكبار عن كل ما لا يوافق أهواءهم وهو طلب الترفع بالامتناع من قبول الحق أنفة من أهله، فصاروا بذلك إلى حد يخفى عليهم معه الشمس كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 20‏]‏ وربما دل ‏{‏مستكبرون‏}‏ على أن ‏{‏منكرة‏}‏ بمعنى «جاحدة ما هي به عارفة»‏.‏

ولما كانوا- لكون الإنسان أكثر شيء جدلاً- ربما أنكروا الاستكبار، وادعوا أنه او ظهر لهم الحق لأنابوا، قال على طريق الجواب لمن كأنه قال‏:‏ إنهم لا يأبون استكباراً ما لا يشكون معه في أن هذا كلام الله ‏{‏لا جرم‏}‏ أي لا ظن في ‏{‏أن الله‏}‏ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ‏{‏يعلم‏}‏ علماً غيبياً وشهادياً ‏{‏ما يسرون‏}‏ أي يخفون مطلقاً أو بالنسبة إلى بعض الناس‏.‏ ولما كان علم السر لا يستلزم علم الجهر- كما مضى غير مرة، قال‏:‏ ‏{‏وما يعلنون‏}‏ فهو أخبر بذلك إلا عن أمر قطعي لا يقبل المراء‏.‏

ولما كان في ذلك معنى التهديد، لأن المراد‏:‏ فليجازينهم على دق ذلك وجهل من غير أن يغفر منه شيئاً- كما يأتي التصريح به في قوله‏:‏ ‏{‏ليحملوا أوزارهم كاملة‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏ علل هذا المعنى بقوله‏:‏ ‏{‏إنه‏}‏ أي العالم بالسر والعلن ‏{‏لا يحب المستكبرين *‏}‏ أي على الحق، كائناً ما كان‏.‏

ولما كان الطعن في القرآن- بما ثبت من عجزهم عن معارضته- دليل الاستكبار قال تعالى عاطفاً على قوله ‏{‏قلوبهم منكرة‏}‏‏:‏ ‏{‏وإذا قيل‏}‏ أي من أيّ قائل كان في أي وقت كان ولو تكرر ‏{‏لهم‏}‏ أي لمنكري الآخرة‏:‏ ‏{‏ماذا‏}‏ أي أي شيء ‏{‏أنزل ربكم‏}‏ أي المحسن إليكم المدبر لأموركم ‏{‏قالوا‏}‏ مكابرين في إنزاله عادّين «ذا» موصولة لا مؤكدة للاستفهام‏:‏ الذي تعنون أنه منزل ليس منزلاً، بل هو ‏{‏أساطير الأولين‏}‏- مع عجزهم بعد تحديهم عن معارضة سورة منه مع علمهم بأنه أفصح الناس وأنه لا يكون من أحد من الناس متقدم أو متأخر قول إلا قالوا أبلغ منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏25‏)‏ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

ولما كان الكتاب هو الصراط المستقيم المنقذ من الهلاك، وكان قولهم هذا صداً عنه، فكان- مع كونه ضلالاً- إضلالاً، ومن المعلوم أن من ضل كان عليه إثم ضلاله، ومن أضل كان عليه وزر إضلاله- هذا ما لا يخفى على ذي عقل صحيح، فلما كان هذا بيناً، وكانوا يدعون أنهم أبصر الناس بالخفيات فكيف بالجليات، حسن جداً قوله‏:‏ ‏{‏ليحملوا‏}‏ فإنهم يعلمون أن هذا لازم لهم قطعاً وإن قالوا بألسنتهم غيره، أو يقال‏:‏ إنه قيل ذلك لأنه- مع أن الجهل أولى لهم منه- أخف أحوالهم لأنهم إما أن يعلموا أنهم فعلوا بهذا الطعن ما ليس لهم أولاً، فعلى الثاني هم أجهل الناس، وعلى الأول فإما أن يكونوا ظنوا أنهم يؤخذون به أو لا، فعلى الثاني يكون الخلق سدى، وليس هو من الحكمة في شيء، فمعتقد هذا من الجهل بمكان عظيم، وعلى الأول فهم يشاهدون كثيراً من الظلمة لا يجازون في الدنيا، فيلزمهم في الحكمة اعتقاد الآخرة، ليجازى بها المحسن والمسيء، وهذا أخف الأحوال المتقدمة، ولا يخفى ما في الإقدام على مثله من الغباوة المناقضة لادعائهم أنهم أبصر الناس، فقد آل الأمر إلى التهكم بهم لأنهم نُسبوا إلى علم الجهل خير منه ‏{‏أوزارهم‏}‏ التي باشروها لنكوبهم عن الحق تكبراً لا عن شبهة‏.‏

ولما كان الله من فضله يكفر عن أهل الإيمان صغائرهم بالطاعات وباجتناب الكبائر فكان التكفير مشروطاً بالإيمان، وكان هؤلاء قد كفروا بالتكذيب بالكتاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كاملة‏}‏ لا ينقص منها وزر شيء مما أسروا ولا مما أعلنوا، لخفاء ولا ذهول بتكفير ولا غيره من دون خلل في وصف من الأوصاف، فهو أبلغ من «تامة» لأن التمام قد يكون في العدة مع خلل في بعض الوصف ‏{‏يوم القيامة‏}‏ الذي لا شك فيه ولا محيص عن إتيانه ‏{‏و‏}‏ ليحملوا ‏{‏من‏}‏ مثل ‏{‏أوزار‏}‏ الجهلة الضعفاء ‏{‏الذين يضلونهم‏}‏ فيضلون بهم كما بين أولئك الذين ضلوا ‏{‏بغير علم‏}‏ يحملون من أوزارهم من غير أن يباشروها لما لهم فيها من التسبب من غير أن ينقص من أوزار الضالين بهم شيء وإن كانوا جهلة، لأن لهم عقولاً هي بحيث تهدي إلى سؤال أهل الذكر، وفطراً أولى تنفر من الباطل «أول» ما يعرض علهيا فضيعوها؛ ثم استأنف التنبيه على عظيم ما يحصل لهم من مرتكبهم من الضرر وعيداً لهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا ساء ما يزرون *‏}‏ فأدخل همزة الإنكار على حرف النفي فصار إثباتاً على أبلغ وجه‏.‏

ولما كان المراد من هذا الاستكبار محو الحق وإخفاء أمره من غير تصريح بالعناد- بل مع إقامة شبه ربما راجت- وإن اشتد ضعفها- على عقول هي أضعف منها، وكأن هذا حقيقة المكر التي هي التغطية والستر كما بين في الرعد عند قوله تعالى‏:‏

‏{‏بل زين للذين كفروا مكرهم‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23‏]‏ شرع يهدد الماكرين ويحذرهم وقوع ما وقع بمن كانوا أكثر منهم عدداً وأقوى يداً، ويرجي المؤمنين في نصرهم عليهم، بما له من عظيم القوة وشديد السطوة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قد مكر الذين‏}‏ ولما كان المقصود بالإخبار ناساً مخصوصين لم يستغرقوا زمان القبل، أدخل الجار فقال تعالى‏:‏ ‏{‏من قبلهم‏}‏ ممن رأوا آثارهم ودخلوا ديارهم ‏{‏فأتى الله‏}‏ أي بما له من مجامع العظمة ‏{‏بنيانهم‏}‏ أي إتيان بأس وانتقام ‏{‏من القواعد‏}‏ التي بنوا عليها مكرهم ‏{‏فخر‏}‏ أي سقط مع صوت عظيم لهدته ‏{‏عليهم السقف‏}‏‏.‏

ولما كانت العرب تقول‏:‏ خر علينا سقف ووقع علينا حائط- إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه كما نقله أبو حيان عن ابن الأعرابي، قال تعالى صرفاً عن هذا إلى حقيقة السقوط المقيد بالجار‏:‏ ‏{‏من قولهم‏}‏ وكانوا تحته فهلكوا كما هو شأن البنيان إذا زالت قواعده‏.‏

ولما كان المكر هو الضر في خفية، لأنه القتل بالحيلة إلى جهة منكرة، بين أن ما حصل لهم من العذاب هو من باب ما فعلوا بقوله‏:‏ ‏{‏وأتاهم العذاب‏}‏ أي الذي اتفقت كلمة الرسل على الوعيد به لمن أبى ‏{‏من حيث لا يشعرون *‏}‏ لأن السبب الذي أعدوه لنصرهم كان بعينه سبب قهرهم، وهذا على سبيل التمثيل، وقيل‏:‏ إنه على الحقيقة فيما بناه نمرود من الصرح‏.‏

ذكر قصته من التوراة‏:‏

قال في السفر الأول منها في تعداد أولاد نوح عليه السلام‏:‏ وكوش- يعني ابن حام بن نوح- ولد نمرود، وكان أول جبار في الأرض، وهو كان مخوفاً ذا صيد بين يدي الرب، ولذلك يقال‏:‏ هذا مثل نمرود الجبار القناص، فكان مبدأ ملكه بابل والكوش والأهواز والكوفة التي بأرض شنعار، ومن تلك الأرض خرج الموصلي فابتنى نينوى ورحبوت القرية- وفي نسخة‏:‏ قرية الرحبة- والإيلة والمدائن؛ ثم قال بعد أن عد أحفاد نوح عليه السلام وممالكهم‏:‏ هؤلاء قبائل بني نوح وأولادهم وخلوفهم وشعوبهم، ومن هؤلاء تفرقت الشعوب في الأرض بعد الطوفان، وإن أهل الأرض كلهم كانت لغتهم واحدة، ومنطقهم واحداً، فلما ظعنوا في المشرق انتهوا إلى قاع في أرض شنعار- وفي نسخة‏:‏ العراق- فسكنوه، فقال كل امرئ منهم لصاحبه‏:‏ هلم بنا نلبن اللبن ونحرقه بالنار، فيصير اللبن مثل الحجارة ويصير الجص بدل الطين للملاط، ثم قال‏:‏ هلموا‏!‏ نبن لنا قرية نتخذها، وصرحاً مشيداً لاحقاً بالسماء، ونخلف لنا شيئاً نذكر به، لعلنا ألا نتفرق على الأرض كلها، فنظر الرب القرية والصرح الذي يبينه الناس، فقال الرب‏:‏ إني أرى هذا الشعب رأيهم واحد ولغتهم واحدة وقد هموا أن يصنعوا هذا الصنيع فهم الآن غير مقصرين فيما هموا أن يفعلوه، فلأورد أمراً أشتت به لغتهم حتى لا يفهم المرء منهم لغة صاحبه، ثم فرقهم الرب من هنالك على وجه الأرض كلها، ولم يبنوا القرية التي هموا ببنائها، ولذلك سميت بابل لأن هنالك فرق الرب لغة أهل الأرض كلها- انتهى‏.‏

قال لي بعض علماء اليهود‏:‏ إن بابل معرب بوبال، ومعنى بوبال بالعبراني الشتات- هذا ما في التوراة، وأما المفسرون فإنهم ذكروا أن الصرح بني على هيئة طويلة في الطول والإحكام، وأن الله تعالى هدمه، فكانت له رجة تفرقت لعظم هولها لغة أهل الأرض إلى أنحاء كثيرة لا يحصيها إلا خالقها فالله أعلم‏.‏